من ذاكرة الطب.. قرية “المسرّة” وغرف الأحزان!
د. يعقوب اللويهي..
اختصاصي طب الأسرة
رافعًا يديه .. تدمع عيناه، وقلبه يبكي بنبرة الراجي رحمة ربه، قائلًا : “أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك”، قالها ثلاثا!!
موقفٌ لم تستطع ذاكرتي أن تخفيَه! .. ذلك الموقف الذي كان لغته الصمتَ الطويلَ على شفتيّ، وأنا أرى حال ذلك الأب الحائر الذي كان يشدّ انتباهه أيُّ صوت من الحاضرين لعله يسمع حلً لمشكلة ابنه فلذة كبده ..
أُصيب ابنه بالاكتئاب، وهولا يزال زهرةً لم تبسط كل أوراقها لتبث عبقها لهذه الحياة..
وُضع بالمستشفى؛ لسوء حالته وخوفًا من أن ينتهي به المطاف إلى إيذاء نفسه ..
ولكن هيهات!.. لم يطق الابن أن يُحبَس، وأن تُكَبّل حريته في غرفة، وقد اعتاد أن يمرح مستمتعًا بمغامرات الطفولة.
بدأ صراخه يعلو يومًا بعد يوم مستغيثًا أن يُنقَذ من بحرٍ لا ماء فيه.!
أتى أهله لزيارته، فجاؤوا به إليهم، وما إن رآهم حتى صرخ في وجوههم يطلب الخروج.!
وقف الأب حائراً ماذا يفعل!
ولسان حاله: ” واحسرتاه عليك يا بنيّ”. !
يريد الأب أن يتلقى ابنه العلاج، ولكنّ من حوله أخذوا يتمتمون أنْ لا فائدة من هذا المكان، وأن ما به ليس من أمر الطب في شيء، ولا بد أن يأخذوه إلى شيخٍ؛ ليقرأ عليه؛ فقد أصابه مس من الجن .. ربما!
طلب الأب مقابلة الطبيب المعالج فحضرتُ معهم .. الأب والأم والخال وبعض الأقارب ..
بدأ الطبيب بشرح حالة الطفل، وإن ما يمر به هو حالة نفسية تستدعي العلاج، وتحتاج لبعض الوقت؛ كي تتحسن ..
حاول الأب أن يركز في كلام الطبيب، ويقنع نفسه ولكنّ همس الأهل بعضهم بعضًا يشوش تفكيره حتى علت أصواتهم..
أخذوا يقذفون الكلمات على الطبيب مرددين أن “طبُّكم لا منفعة منه، وأنكم تعذبونه لا أكثر …” !!
حاول الطبيب إقناعهم بخطورة أخذ الطفل من المستشفى، وأنه قد يفضي إلى ما لا تُحمد عقباه!
وسط هذه المعمعة كنت أنظر إلى الأب، وهو يلتفت هنا وهناك، تجذبه كلُّ كلمةٍ ينطق بها أيٌ من الحضور، عله يسمع حلاً يخرجه من مستنقع الحيرة الذي يعيشه وهو يرى ابنه المريض ولا يدري ما يصنع!
تعب من تحريك رأسه وعيني شاخصةٌ إليه رأفةً ورحمةً إلى أن سكنت ملامحه، وغطّى الصمت جسده.. وبدأت عينه تسبح في بحرٍ من الدمع .. أدرك حينها أن لا ملجأ إلا إلى جبار السموات والأرض .. فرفع يديه ببطء، وأسكتت كلماته تلك الفوضى وهو يردد: “أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك ، ثم نظر إليَّ وقال :” اسألك بالله أن تدعو له”
أصابتني رجفة، وهو يوجه إلي هذا الكلام، وحاله يرثى لها..
لم أستطع أن أنطق ببنت شفه إلا موحدًا ومحوقلاً!!