امرأة بلا تاج .. (قصة قصيرة)
بلقيس البوسعيدية
بينما يتقافز الصغار هنا وهناك، محاولين بقدر استطاعتهم صنع ضحكات تنسيهم وخزات البرد والجوع؛ تجلس الأم مذعورة قرب النافذة، تفكر على وقع المطر وصوت الرياح العاصفة بزوجها الذي خرج فجرا، بحثا عن لقمة العيش في الأراضي البعيدة ولم يعد بعد، لقد طال غيابه على غير عادته، ففي فجر كل يوم، يرتدي معطفه الأسود المهترئ، يزلق قدماه في حذاء ضيق، يحمل عصا غليظة تساعده على ترويض خطواته العرجاء في الطرقات الضيقة بين هبوط الجبال وصعودها، ثم يودع صغاره بابتسامة عريضة، ولا يعود إلا وبيده ما يكفي لتسكيت عصافير الجوع في بطونهم الخاوية.
قال أحمد -الابن البكر- وهو يحث الخطى نحو كومة الأواني الفارغة الملقاة أسفل الحنفية: “أمي، أنا جائع”.
اقتربت منه؛ وبيدها المرتعشة مسدت شعره البني القصير، ثم بسطت ذراعيها النحيلتين واحتضنته دون أن تنبس بأي كلمة، وكأنما العناق كان كافيا ليسد جوع طفلا لم يتجاوز العاشرة من العمر.
وفجأة ارتفع عواء الريح في الخارج؛ فانتفضت النافذة وانفتحت على مصراعيها، وارتجفت الشمعة الواقفة على المنضدة الصغيرة قرب السرير مع تلاش ضوؤها، ثم تعالت صرخات الصغار: “أمي، أمي”.
الأم بصوت ملؤه الاطمئنان: “لا بأس، أنا هنا، أمكم هنا يا صغاري لا تخافوا، إنها الريح”.
بخطوات حذرة ومدروسة اقتربت من صغارها، شعرت بأصابعهم النحيلة وهي تتحسس الفراغ في الظلمة الدامسة؛ بحثا عن أطراف ثوبها. بهدوء وحذر أقتربت من النافذة وأحكمت إغلاقها، ثم هرعت لإيقاظ الشمعة الغافية من جديد. انتشرت الظلال على الجدران الخشبية؛ فابتسمت الشفاه الذابلة، وعاد الصغار لممارسة اللعب مرة أخرى.
الأم تحدث نفسها وهي تحدق إلى اللاشيء عبر النافذة: “إنها آخر شمعة، آخر مصدر للدفء والضوء، آه ترى ماذا عنه؟! هل سيعود أم أن…”. قاطعها عمر وهو يشد طرف ثوبها قائلا: “أمي، أمي.. متى سيعود أبي، أنا خائف”.
مسح على بطنه الصغيرة، ثم أردف قائلا وهو يقطب حاجبيه:” آه، وجائع أيضا؟!”.
نظرت إليه نظرة وديعة، ثم أسندت رأسها إلى صلابة الجدار وبقيت صامتة.
بعد قرابة ربع ساعة، سمعوا صوت طرقات متتالية على الباب؛ تجمدت نظرات الصغار واختفت ابتساماتهم الباهتة، انتفض قلب الأم؛ فنهضت واقفة لتعرف من الطارق.
سألت بصوت عال: “من؟!، من الطارق؟!”.
أجابها صوت تعرفه تمام المعرفة: “إلى متى ونحن على هذا الحال؟!، لقد سئمت أعذاركم، مهلتكم ثلاثة أسابيع كما طلبتم ولم أشتم رائحة نقود”.
تذكرت ما قاله لها زوجها وهو يهم بالخروج:” لا تقلقين يا جبيبتي، سوف أعود والنقود في جيبي، سوف أعود والطعام الشهي معي”.
قالت وهي تضم صغارها إلى حضنها مثلما تضم الحمامة بيضها على ذراع شجرة عارية: “إن زوجي غير موجود الآن، وحالما يعود، أعدك بأننا سوف نسدد لك الإيجار كاملا. فقط أمهلنا بعض الوقت، أنا أرجوك”.
هز رأسه، وقال وهو يلوح بيده بعنف في الهواء: “هراء، أنه الهراء ذاته في كل مرة. عليكم إخلاء المنزل، يوجد مستأجرين جدد، لن أضيع هذه الفرصة، كما أنني لن أنتظر تحقيق أية وعود زائفة من رجل مخادع مثل زوجك”.
صمت للحظات، ثم أردف قائلا: ” إن لم تخرجوا غدا بهدوء فسوف أخرجكم بالقوة”.
الريح تعوي بالخارج، المطر يزداد كثافة، الأطفال يتقافزون هنا وهناك، والوقت يمضي كموجة كئيبة وثقيلة. حدثت الأم نفسها قائلة: “اقطعي الأمل يا امرأة، لن يعود، أنت تعرفين أنه لن يعود. أولادك يتضورون جوعا ويرتعشون بردا وأنت ما زلت تنتظرين. لا تكوني غبية، هيا أنقذني صغارك من هذا الوضع البائس. سوف يأكلك الندم ما لم تتحركي الآن”.
قالت بنبرة حازمة وهي تتطلع إلى صغارها: “أحمد، عمر، أنتما الآن كبيران وتفهمان جيدا ما معنى الخروج من البيت دون شخص بالغ، بدوني أو بدون أباكما”.
قاطعها عمر قائلا: “الذئب في الخارج أمي، لا يصح الخروج دون شخص كبير، الذئب فوق التلة يجلس في ظلال الأشجار العملاقة”.
هزت رأسها بحزم، وقالت: “أجل عزيزي، الذئب في الخارج، وعليكما البقاء في المنزل، المنزل المكان الوحيد الأكثر أمنا في هذا العالم. تذكرا ما أقوله لكما يا عزيزاي. لا تفتحا الباب لأي أحد”.
قال أحمد: “ماذا لو كان الطارق أبي؟!، هل نفتح له الباب أم نبقيه في الخارج؟!”.
لوهلة سرحت الأم بفكرها بعيدا، ثم قالت في صوت خفيض وقد علت وجهها بسمة مكسورة: “أيا كان الطارق لا تفتحا الباب. هل هذا مفهوم؟!”.
أومأ الطفلان إيجابًا. قبلتهما، شمت رائحتهما، احتضنتهما بقوة وقالت:
“سوف أعود ومعي الطعام والماء، سوف أعود، لا تخافا”.
حثت الخطى نحو الدولاب. ارتدت معطفا أزرق مهترئ يغطي جسدها حتى أخمص قدميها، لفت عنقها بوشاح مرقط وممزق، حشرت قدميها في حذاء أسود، وأخذت معها مظلة وقبعة سوداء. من فوق كتفها؛ ألقت نظرة خاطفة إلى الطفلين، ثم خرجت واغلقت الباب خلفها.
في الطريق أخذت تلتفت إلى الوراء كثيرا، تنظر إلى البيت وهو يذوب تحت المطر شيئا فشيئا. في نهاية المنعطف التفتت لآخر مرة؛ فلم يعد للبيت أثر، انسلت من بين أهدابها دمعة، مسحتها بقفا يديها، ثم تنهدت بعمق وأكملت المسير.
في السوق المزدحم، راحت تنادي بأعلى صوتها؛ بغية جلب انتباه المارة: “بعشرة ريالات، من يشتري؟!، من يشترى؟!، بعشرة ريالات”.
بعد ما يقارب الساعتين وجدت المشتري. حدقت في النقود وهي ترجف من الداخل، تذكرت ما قالته لها أمها ذات يوم وهي طفلة في الرابعة من العمر عندما كانت تمشط لها شعرها:” أجمل فتاة، وأجمل تاج في الدنيا كلها.”. طوال طريق العودة إلى البيت وهي تفكر بتلك النظرة الباهتة من زوجها، النظرة التى وشت به أنه لن يعود. فقبل يومين من اختفائه سمعت الحديث الذي دار بينه وبين الرجل الغريب ذو الأكتاف العريضة والصوت الأجش: “هل أنت مستعد؟، لا حل لك سوى الهرب وترك كل شيءٍ وراءك، قلت لك سابقا لا تتزوج، أنت رجل فقير، وزواج الفقراء خطيئة”.
سحب نفسا من سيجارته، ثم استرسل قائلا بنفس النبرة: “هيا أخبرني، ما هو قرارك الأخير؟”.
“آه، غدا، نعم، نعم، غدا أنا مستعد، لا يوجد أمامي خيار آخر، أنا مدين بالمال وإن لم أسدد ديوني غدا؛ فسوف ارجم حتى الموت. يا رجل، لقد رأيت الموت يبرق لي من عيون كل شخص أقرضني المال. أريد الخلاص من كل هذا، ما عدت أحتمل رعب الحياة هنا”.
على طاولة العشاء المتأخر عن موعده، كانت نظرات الصغار تحوم فوق رأس الأم مثل فراشات وديعة في حقل فسيح، لقد لاحظا الفرق الشاسع في مظهرها.
قال عمر وهو يرفع كوب الماء إلى شفتيه الصغيرة:
“أمي، قصة شعرك جميلة”.
جمعت شمل ابتسامة باهتة، ثم قالت بصوت مختنق:”هل شبعتم يا صغاري؟ هل شربت الماء يا عمر؟”.
لا إجابات، كانا مشغولان في التهام الطعام بنهم.
نام الصغار وما نامت عيون الأم، الحزن يعتصر قلبها ويستبيح دموعها، لقد خانها من أحبته وأخلصت له، تركها تقاسي الفقر والجوع والبرد مع قلبين بريئين وصغيرين لا ذنب لهما.
نهضت إلى الجدران، وفي المرآة المهشمة من أطرافها راحت تتأمل شكلها الجديد، تمتمت وهي تمسح بيدها على رأسها: “أنا آسفة يا أمي، ما عدت تلك الأميرة الصغيرة التي تعرفينها، تخليت عن التاج لأجلهم، لأجل صغاري بعت تاجي يا أمي”.