أكلت يوم أكل الثور الأبيض

هلال بن عبد الله بن محمد العبري
لم يعد الموت في غزة حدثًا، بل صار أمــرا معتادا. فلا تمر ساعة دون أن يسقط شهيد، ولا يتوقف القصف، ولا تستريح الأمهات من الحداد. بين أنقاض البيوت وأشلاء الأطفال، تكتب فلسطين فصلًا جديدًا من فصول مأساتها والوحشية التي لم يعرف لها التاريخ سابقة وقساوة صمت العالم، ولكن الأشد قسوة من صمت العالم هو صمت إخوة الدم واللغة؛صمت العرب.
فمنذ أكثر من ثمانية عشر شهــرا وغـزة تخوض أقسى فصول الحرب وأكثرها وحشية في تاريخها بل في تاريخ البشرية لعدوان صهيوني تتاري دموي يستهدف البشر والحجر، ويحوّل القطاع المحاصر إلى جحيم مفتوح تحت أعين العالم وصمته المخزي.
في هذه الحرب التي لا تُفرَّق بين طفل وشيخ، ولا بين مستشفى وملجأ، ولا بين مدرسة ومسجد، تُقصف البيوت على رؤوس ساكنيها، و تُباد العائلات بالكامل، وتُشطب الأسماء من السجلات المدنية دفعة واحدة. إنها إبادة جماعية ممنهجة، تُنفَّذ على مرأى ومسمع من العالم، بينما تلتزم الدول خطابًا باردًا بين “مؤيد ومعارض”.
حــرب ضروس بلا هواده، أرقام الشهداء في تصاعد مستمر أغلبهم من النساء والأطفال، فيما تستمر آلة الحرب الصهيونية في حصد الأرواح بلا توقف. المستشفيات مدمرة، وفرق الإنقاذ تعمل بأدوات بدائية، والمساعدات الإنسانية محاصرة، نفذ الدواء والطعام وتفشت المجاعة والــمرض والألم.
ورغم كل هذا يغيب الموقف العربي الموحد، ويتحول الصمت إلى تواطؤ، أو إلى بيانات إدانة لا تسمن ولا تغني من جوع. شعوب تخرج إلى الشوارع غاضبة، لكنها تصطدم بأنظمة لا تملك أو لا ترغب في اتخاذ مواقف حازمة.
أين العروبة؟ و أين القومية؟ و أين النخوة التي طالما تغنينا بها؟
ما يحدث اليوم هو اختبار قاسٍ للعالم العربي، وقد سقط فيه كثيرون. بعضهم شارك في الجريمة بالصمت، وبعضهم الآخر تواطأ بالمواقف أو بالمصالح أو بالتطبيع.
إن ما يحدث في غزة ليس فقط حربًا، بل وصمة عار على جبين الإنسانية، ودليلا دامغا على أن “النظام العالمي” لا يزال يُدار بمعايير مزدوجة؛ حيث تُغضّ الأبصار عن مذابح كاملة، وتُبرَّر جرائم الحرب تحت عناوين كاذبة وتدان وتهــول في أماكن أخـــرى.
ومن يعتقد بأن غزة هي الهدف فهــو واهم، وبأن القضية الفلسطينية هي “البومة” التي يجب التخلص منها والفال السيئ الذي يجب إنهاؤه وطمره حتى ينتهي تاريخ الصراعات الطويلة في المنطقة، لتنفتح بعده آفاق جديدة مع الكيان الصهيوني والغرب؛ فهو في أشد الوهم.
وما غزة إلا الثور الأبيض، الثور الذي ضحى به إخوته بعد ما غـرر بهم العدو وأوهمهم بأنه السبب الذي يجعلهم عرضة للهلاك لسهولة رؤيته في الظلام إلى أن قتلوا جميعا بعدما تفرقوا وضعفت شوكتهم وقوتهم؛ حينها ستعرف الدول العربية الأخــرى بأنها أكلت يوم أكل الثور الأبيض.
غزة اليوم لا تحتاج إلى التضامن، بل إلى عدالة حقيقية توقف رحــى الحرب الطاحنة، والسعي لمحاسبة الجناة على جرائمهم. فصمت العالم لن يمحو الحقيقة، ولن يمنع التاريخ من أن يُسجل هذه الحرب كواحدة من أبشع الجرائم التي ارتُكبت بحق شعب أعزل يُطالب بحقه في الحياة، وبأن العــرب تخلوا عن فلسطين واكتفوا بالنظــر إلى أشلائهم تتطاير إلــى السماء أو تحترق على الأرض.