2025م
Adsense
قصص وروايات

حارس المكتبة

خالصة بنت علي السليمانية

أنا عمار أدرس “حقوق” في السنة الثالثة، أعشق الكتب، أعيش في مدينة كبيرة مع أمي وأبي وأختي سارة. جدي يعيش في قرية صغيرة بعيدة عن المدينة، رفض جدي العيش معنا، وبصراحة معه حق؛ فالقرية عالم يعيش فيه البسطاء الذين اختاروا البساطة في العيش عن الرفاهية، وتمكنوا من خلق السعادة في أبسط الأشياء. هناك تشمّ الهواء النقي وتداعب نسمة عليلة الملابس وخصلات الشعر، وأحيانا تخالط الهواء رائحة الخبز الطازج أو قهوة ساخنة تغلي.

إنّ الذهاب إلى القرية هو الأكثر سعادة لي منذ أن كنت صغيرا، كنت أذهب إلى القرية مع أسرتي لقضاء الإجازة الصيفية،
استمتع كثيرا وأنا أجلس مع جدي تحت شجرة البرتقال أو نتجول في حقول القرية، أحاديثنا لا تنتهي، أما مكتبة جدي الصغيرة فهي عالم كبير.
حاولت أقنع أختي أن العيش في القرية أفضل وأمتع من العيش في المدينة، ولكن في كل مرة أفشل ويزيد إصراري بحبي للقرية، وكنت أكرر سؤالي لأبي؛ لماذا انتقلت للعيش في المدينة؟
دائماً كان جوابه؛ للبحث عن العمل.
أبي لا يملك أي شهادات جامعية، استمريت بالذهاب إلى القرية لزيارة جدي حتى وأنا في الجامعة. كنت أذهب لوحدي. أبي وأمي يعتذران دائماً عن الذهاب بحجة أن الطريق بعيدة وصحتهما ليست كسابقها، ولكن في مرات قليلة يقبلان الذهاب معي. دائماً ما أشعر أن هناك سر يخفيانه. حاولت أن أعرفه فلم أستطع
أن أكشفه.
في أحد الأيام ذهبت إلى زيارة جدي. كان لديّ أسبوع إجازة، شعرت أن شيئا متغيرا في حالته!
حين سألته قال: أنه بخير، ثم قال لي: إذهب إلى المكان الفلاني وأدخل زقاق وسرّ حتى تصل إلى مكتبة النور.
رجعت إلى المدينة لأن المكان الذي أخبرني عنه كان في المدينة.
في اليوم التالي بدأتُ البحث. لم يكن الأمر صعبا. وجدت المكان
ودخلت الزقاق. الهدوء سيد المكان، لم أرَ رجل يمشي في الزقاق، رفعت نظري قليلاً رأيت امرأة تنظر من خلف النافذة. بعض البيوت كتب عليها للبيع والأخرى مهدمة، جزء منها قهوة مغلقة!
وأنا أسير شعرت أن المكان مريب. أين أهل المكان؟! مرّ رجل بجانبي، كان ينظر إليّ بشكل غريب، أوقفته لأساله عن مكان المكتبة، ولكنه رحل دون أن يجيب كأن سؤالي مبهم.
أكملت سيري وأقْبلَ رجل آخر شعرت أنه يقصدني، وفعلا أتي إليّ، وسألني هل أنت من الإسكان أم البلدية؟
أجبته: أنا لست من هذا ولا هذا، جئت أبحث عن مكتبة النور، وقال لي: ألا تعلم أن هذه المكتبة ملعونة، وقد تصيبك اللعنة إذا اقتربت منها.
قلت له: ومع ذلك أريدك أن تخبرني عن موقعها.
رد: لقد حذرتك، إذهب آخر الزقاق وستجدها على يمينك.
فانطلقت في طريقي وأنا أُتمتم والخوف ينتابني، لا يعقل أن يرسلني جدي إلى مكان قد يصيبني فيه مكروه، وربما شغفي للكتب وحب المغامرة جعلني أمضي في طريقي. لوحة قديمة وكتابة بدأت بالاختفاء وقفل كبير على الباب، اقتربت أكثر وجاء صوت من خلفي يقول: إذا كنت لا تريد أن تتأذى إرحل في الحال من هنا.
ألتفت فإذا بشاب لا أعتقد أنه وصل العشرين في العمر
قلت: من أنت؟
تفاجأ الشاب وبشدة؛ هكذا شعرت، ثم قال: ومن أنت، ولماذا أنت هنا؟
أنا “عمار” أرسلني جدي “عبد القادر” إلى هذا المكان، وتحديدا إلى مكتبة النور.
تجمد الشاب مكانه وفتح عيناه كأنه مصعوق من كلامي، لم أفهم ردت فعل الشاب ولكن ربما هي أحد أسرار هذا الزقاق، حاولت أن أفتح الباب ولم أعير أي انتباه لكلام الشاب عن الأذى الذي يمكن أن يصيبني.
اقترب مني وبيده مفتاح، نظرت إليه، تغير وجهه، أصبح مليء بالحزن. دخلت المكتبة، كانت الرفوف مرتبة ونظيفة كأنها كل يوم يتم تنظيفها حتى أرضية المكتبة نظيفة إلا بقعة باللون الأحمر، لا أعلم لماذا لم يتم تنظيفها؟!
حين شممت الرائحة علمت أنها بقعة دم، أكملت بحثي عن الكتب التي أتيت من أجلها، لم يكن بين الرفوف، اتجهت إلى الطاولة، ربما كانت لبائع الكتب، فتشت في الأدراج لم أجده، تنقلّت ببصري هنا وهناك، لا أعلم لماذا شعرت أن الصورة المعلقة على الجدار كان وراءها أمر ما. أمسكتها بيدي لأنزلها عن الجدار، كانت ثقيلة، وجدت الكتاب وراء الصورة، أخذته.
لم أجد الشاب في الخارج، حتى المفتاح! أغلقت الباب ورحلت.
أخبرني جدي أن لا أعود إليه حتى أقرأ الكتاب. كنت أعرف أن جدي يريد أن يناقشني عن محتوى الكتاب.
حاولت أن أنهي قراءة الكتاب قبل نهاية الإجازة. أذكر أن جدي أخبرني أن أقرأ ما يهمني. تعجبت من أمر جدي ولكن طلب مني أن لا أسأل عن أي شيء
في البداية. دائما وأنا أقرأ أي كتاب أبدأ في تقليبه، وربما أقرأ عناوين إذا كانت موجودة، وفعلا بدأت.
( أحببت روح) بعد هذا العنوان صفحات وقبل العنوان الآخر ورقة كتبت بخط اليد.
جدي كتبها لي، فقرأتها. أخبرني أنه سعيد أني ولدت في هذه الحياة ، وبعدها وجدت ورقة أخرى كتب فيها متى أول مرة جئتُ إلى المكتبة، وتفاصيل أخرى!
أما الورقة الثالثة كتب عن شوقه الكبير عندما رحلنا سنة كاملة خارج البلاد، وفي الورقة الرابعة كتب عن تفاصيل الجريمة التي حدثت في المكتبة، وكيف تم قتله بالخطأ، وكتب أنه آسف أني رأيت كل شيء، أما الورقة الأخيرة كتب أن “خليل” حارس المكتبة بريء من تهمة القتل.
لم أستوعب كل تلك الكلمات ولم أعرف ماذا أفعل، كاد أن ينفج رأسي ولكن ركضت بسرعة إلى المكتبة ورأيت الشاب يجلس أمامها.

لماذا لم تبحث عن دليل براءتك؟!
لم أستطيع فأنا وحيد حبسوني وقتلوني في السجن.
أنت روح؟
نعم أنا روح مقيدة لن أتحرر حتى أثبت براءتي. كنت أعمل مع جدك.
لم أراك من قبل ولكن كان يخبرني كثيراً عنك. فرد: كان جدك رجل طيب ساعدني كثيراً حاولت أن أحمي المكتبة بعد وفاته.
عدت إلى البيت ولا أعرف كيف استطعت ذلك لأني بدأت أتذكر تلك الحادثة ووقعت مغشي عليّ، وحين صحوت وجدت نفسي في المشفى، حولي أسرتي، ذرفت الدموع وأنا أردد توفي جدي…
بعد ثلاثة أيام ذهبت إلى القرية، حاولت أمي منعي ولكن أخبرتها يجب أن أذهب .أراد أبي أن يرافقني رفضت أيضا. أعرف أنهما خائفين على صحتي ولكن هذه المرة أحببت بشدة أن أذهب لوحدي. تنهدت قبل أن أدخل بيت جدي، لم أجده، لقد اختفت روح جدي وسكنت في قلبي، تحررت روحه لأني عرفت الحقيقية الآن، جاء دوري لأحرر روح الشاب.
جمعت المعلومات اللازمة الموجودة في بيت جدي من أجل فتح قضية مقتل جدي.
عدت إلى المدينة واتفقت مع محامي بارع، وخلال جلسات المحكمة كنت أذهب إلى المكتبة وأقابل الشاب ربما لأحصل على معلومات إضافية.
تم تبرئة الشاب، كنت أعلم حين ذهبت لن أجده ولكن ترك لي المفتاح….
أدرك أهل الزقاق الأصوات التي كانت تصدر من داخل المكتبة. “خليل” كان ينظفها يوميا ولم يسمح لأحد أن يقترب منها.
وأدركت لماذا ارتسمت على وجه الشاب علامات التعجب والحيرة؟
لأني الوحيد الذي استطاع أن يرى روحه كما استطعت أن أرى روح جدي كل هذه السنوات.
أنهيت دراستي وبدأت بمزاولة عملي كمحامي وفتحت مكتبة جدي…
لا أعلم هل الحب من يجعلنا أن نرى الموتى أم الفاجعة التي لن نستطيع أن نتخطاها أم قدرة امتلكناها!
ربما ليست هذه الأسباب، ربما حتى نكون سبباً في تحرير أرواح ظُلمت…

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights