2024
Adsense
قصص وروايات

الروح الثقيل

زينب بنت نبيل العمّرية

تفكرّتُ في حياة شابّ ثلاثينيّ، يجلس على كرسيٍّ مركوز أمام مدخل السوق القديم شاردَ البال، يحوّل نظره يمنةً ويسرة، يحسبه المارّة من المثقفين الكبار الذين يتجوّلون في السوق للنظر، والتأمّل، والتمتّع بأجوائه؛ ليستعيدوا قريحتهم الكتابيّة، التي تُستحضر بحدث قد يحصل في السوق، أو تستثيرها جماليّة السوق، وعراقته، ورائحته أحيانًا، فالشاب يرتدي نظارة طبيّة ذات إطار سميك، ويربّع يديه أمامه كهيئة من يفكّر، ويتأمّل، لم يتحرّك الشاب من كرسيّه ساعتين، ثم قام أحد الباعة المتجوّلين، وكان شيخًا كبيرًا يلبس دشداشة بيضاء مفتوحة الأزرار، فجلس بجانب الشابّ الثلاثينيّ. سلّم عليه، فنظر الشاب إلى الشيخ بملامح جامدة لا تُظهر تعبيرًا، ولا تنمّ عن شعور، وردّ عليه السلام “وعليكم السلام”، ابتسم الشيخ فبانت لثته الفاقدة للثنايا “ما بك يا ولدي تبدو يائسًا؟”، ابتسم الشابّ ابتسامة يشوبها التكلّف، والعناء، وأجاب عن سؤال الشيخ باقتضاب “لا شيء”، ضحِك الشيخ، ضحِك كثيرًا، لم يرضَ بالإجابة التي تلقّاها، “الوجه يا ولدي يعبّر عن داخل الإنسان، الوجه يكشف عمّا في القلب، ويُظهر نتاج العقل، ويُبدي جوهر الإنسان، ويكشف عن صدقه وكذبه”، نظر الشابّ في عيني الشيخ الغائرتين تحت تجاعيد وجهه، أدرك الثلاثينيّ أن كلام الشيخ لم يكن بكلام بائع جوّال، وابتسم ثانية ابتسامة سُخف أمام وجه الشيخ، والتزم الصمت؛ لأنه لا يعرف كيف يُخبر الشيخ أنه بلغ الرشد في سن متقدّم، فقد كان يريد أن يكبر حتى يصير رجلًا بسرعة، يريد أن يصبح عاقلًا بسرعة، لقد ملّ جنون الطفل، يريد أن يكون له صوت البالغين، ومكانة محفوظة بينهم، وبالفعل أصبح عاقلًا قبل الأطفال كلهم الذين هم في العمر نفسه، واكتسب المكانة التي يحلم بها، وحدثت الأشياء كلها التي توقّعها بعد أن صار شابًّا، إلّا أمرًا واحدًا، هو أنه استنزف الشعور كله، لم يعد يشعر بالفرح أو الحزن، بالطرب أو الغضب، بالقوة أو الضعف، أصبح شعوره على وتيرة واحدة، ذلك ما جعله خاويًا من المعنى، مليئًا باللفظ، يعيش بين الناس فارغًا من الفكرة، مليئًا بالشكل، كيف يُخبر الشاب الشيخ أنه يودّ أن يصبح طفلًا، حتى يعود إلى ظلّه الخفيف؛ لأن روحه الثقيل أعيته، وأهلكته، أخفض الشاب طرفه يائسًا من القدرة على الإفصاح، والبوح عما يجول في خاطره، ماذا سيقول؟ كيف سيفهم الشيخُ النشِطُ حالة الشاب الثلاثينيّ الفاترة؟ ابتسم الشيخ مرة أخرى في وجه الشاب، وربّت على كتفه، وقال له “إن كنت ستعيش فعلًا، فافعل كل ما لا ترغب فيه، انظر فيما لا تحب؛ علّك تجد ضالتك، وتُحيي قلبك”، ثم انصرف. رفع الشاب طرفه، ووجّه عينيه تجاه الشيخ المنصرف، يراقب مشيته وفي وجهه علامات الاستفهام والاستغراب، يشعر أنه في حالة متأرجحة بين الفهم، وإنكار الفهم، يشعر أن شيئًا ما في داخله يملي عليه ما يجب عليه أن يفعله، لكنه يتوقّف لدقائق، ويتأمّل حالته، ويفكّر… ربّما كان يحتاج إلى كلمة صادقة حيّة، نابعة من قلب صافٍ صادقٍ، تلك الكلمة التي قد تشعل بداخله نار القوة، والقدرة، والرغبة، أو ربما يحتاج إلى حوارٍ خالصٍ من شوائب التكلّف، والمجاملة. لم يعنَ الثلاثينيّ بما كان يحتاجه، وإنما يعرف يقينًا أن روحه الآن ليست هي روحه قبل ساعتين، وأن طاقة في داخله تسوقه إلى المغامرة، والتجربة، واكتشاف المجهول.

لم يكن الحوار الذي دار بين الشاب والشيخ إلا تنبيهًا للاستيقاظ من سبات الروح المخدَّرة بآليّة الأحداث اليوميّة المكررة.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights