ترانيم مسائية
ناصر بن خميس السويدي
في الحياة، نتعلم أن التوازن هو المفتاح لكل شيء. أن تتكلم بحكمة، تفكر برويّة، وتحب بصدق دون أن تغرق في بحر مشاعرك. أن تهتم دون أن تفقد نفسك في اهتمامك بالآخرين، وأن تثق لكن بوعي؛ فإنّ الثقة لا تعني الغفلة. كل شيء “كثير” يحمل في طياته أعباء قد لا نراها إلا بعد فوات الأوان.
ليس المطلوب أن نعيش بحذر مفرط أو أن نحسب كل خطوة بدقة متناهية، لكن أن ندرك أن الإفراط هو عدو السعادة؛ لأننا عندما نعطي أنفسنا بالكامل لأي شيء، وننسى أننا بحاجة لأن نترك مساحة لنفسنا؛ لننمو، لنتنفس، لنشعر بالسلام.
الحياة ليست سباقاً للغرق في العمل، أو للحب بلا حدود، أو للتفكير في كل شيء حتى نستنزف عقلنا؛ بل هي رحلة، حيث يكون الاعتدال هو السر. ففيه نجد الراحة، ونبني جسوراً من الهدوء داخل أرواحنا.
التوازن هو الفن الذي يجب أن نتقنه في حياتنا اليومية، فلا فائدة من السعي وراء الكمال الذي لن نصل إليه، ولا من الغرق في مشاعر تجعلنا نهمل أنفسنا. الاعتدال لا يعني التخاذل أو النقص؛ بل هو الحكمة في توزيع طاقاتنا بالشكل الذي يحفظ لنا أنفسنا.
حين نتحدث، لنتحدث بما يفيد، وحين نفكر، لنمنح عقولنا مساحة للهدوء. الحب جميل، لكن إذا أصبح عبئًا، فقد يفقد معناه. والاهتمام بالآخرين نعمة، لكنه يصبح نقمة إن أهملنا ذاتنا. الثقة، حين تزرع في تربة صلبة من الفهم والوعي؛ تزدهر دون أن تؤذينا.
الحياة ليست “كثيرًا” من كل شيء، بل هي لحظات من السعادة، الحزن، الحب، والعطاء، نعيشها بتوازن يحمينا من الانكسار؛ لذلك، لا يجب أن نكون “كثيرًا” في أي شيء، بل أن نكون “كافيًا” لنعيش بسلام مع أنفسنا والآخرين.
إن التوازن هو القوة الخفية التي تمنحنا القدرة على الاستمرار دون أن نخسر أنفسنا في زحمة الحياة. فعندما نفهم أن الاعتدال ليس ضعفًا، بل هو طريق الحكمة، نبدأ في رؤية الحياة بمنظور مختلف. ندرك أن كل خطوة نخطوها بثبات ووعي تضمن لنا مسيرة هادئة ومتزنة.
ليس عيباً أن نتراجع قليلاً حين نشعر بالإرهاق، أو أن نبتعد عندما يثقلنا الحِمل. ففي التراجع أحياناً حماية للنفس، وفي البعد تجد النفس مساحة لتلتقط أنفاسها وتعود أقوى.
الحياة لا تنتظر أحداً، لكنها أيضًا لا تجبرنا على الإسراف في أي جانب منها. كل شيء حولنا يعلمنا الاعتدال؛ الشمس تشرق وتغرب بانتظام، البحار تمدّ وتغيض، والأشجار تنمو بصبر. نحن جزء من هذا الكون المتوازن، وعندما نحاكي هذا التوازن في حياتنا، نجد فيها طمأنينة وسلاماً.
فليكن شعارنا في هذه الرحلة: “كُن كافيًا”. لا تكن “كثيراً” لدرجة تؤلم نفسك، ولا قليلاً لدرجة تظلمها. كن في المنتصف، حيث تجد روحك الأمان والسكينة.
وفي هذا المنتصف، نجد الجمال الحقيقي للحياة. نجد أنفسنا قادرين على العطاء دون أن نستنزف طاقاتنا، وعلى الحب دون أن نخسر كرامتنا. نعيش علاقاتنا بروح منفتحة، لكن مع حدود تحفظ لنا احترامنا لأنفسنا. فالأمان الداخلي لا يأتي من كمال نبحث عنه في الخارج، بل من انسجامنا مع أنفسنا ومع محيطنا.
عندما نختار التوازن، نختار أن نحيا بوعي. نختار أن نكون حاضرين في كل لحظة دون أن نستهلك أرواحنا في القلق على المستقبل أو الندم على الماضي. نختار أن نعمل بجد، لكن بقدر يحفظ لنا صحتنا النفسية والجسدية. نختار أن نهتم بالآخرين، لكن دون أن نفقد هويتنا في سبيل إرضائهم.
الحياة تعلمنا أن من يعطي كل شيء دفعة واحدة، قد يجد نفسه في النهاية خالي الوفاض. لكن من يوزع طاقته بحكمة، يبني شيئاً مستداماً له ولمن حوله. هذا هو سر السعادة الطويلة الأمد، التي لا تأتي من الإفراط في أي شيء، بل من العيش بحب وتوازن وانسجام.
في النهاية، الحكمة ليست في السعي وراء “الكثير”، بل في معرفة متى يكون “الكافي” هو كل ما نحتاجه لنحيا بسلام وسعادة.