ورحل مهندس الطوفان…!
محمد بن حمد المعولي
بكوفية فلسطينية ويد مبتورة سبقت صاحبها إلى الجنة، وعلى أريكة تفتخر بالجالس عليها وعصا تشبه عصا موسى يظهر مهندس الطوفان في آخر رمق من حياته بيد واحدة وجمجمة مهشمة؛ ليقول للعالم أنا هنا، فلست كما يدعون بأنني في أعماق الأنفاق، أنا هنا أقاتل من أجلكم يا مسلمين ومن أجل الأرض والحرية والسلام، مات أبا إبراهيم يحيي السنوار لكنه يحيا بيننا؛ فالشهيد لا يموت! هكذا هم من يخلقون في أرض رايتها بندقية وترابها من بارود يحيون أبطالا ويموتون أبطالا، رحــل السنوار لكن قضية فلسطين لن تموت وغزة باقية وسيأتي من بعده ألف سنوار !.
{مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}.[سورة الأحزاب، آية: 23].
نِعم الرجال هم الذين أخلصوا لله عملهم وجاهدوا في الله بأموالهم وأنفسهم وضحوا بأروع التضحيات من أجل قضية أمتهم ومصير شعوبهم، فلم يهنوا ولم يتخاذلوا، ولم يفرطوا في أعراضهم، ولم يتنازلوا بشبر من أراضيهم بالرغم من كل الأسى الذي أصابهم والكرب الذي ألــم بهم؛ فقد أعتقلوا وعذبوا وفي غياهب السجون ألقوا، ومن أقسى صنوف التنكيل والإهانات والتجويع أذيقوا، لكنهم كانوا كالجبال صامدين وعلى الحق باقين، فقد ثبت الله قلوبهم ومنحهم القوة والصبر؛ فكانوا على البلاء صابرين وعلى أشد التعذيب متكبدين.
هذا، ويشاء الله تعالى أن يخرجهم من الزنازين ومن ظلمات السجون ثم يمكنهم في الأرض ويمدهم بقوة من عنده، كما ألهمهم الصبر والتجلد؛ فكانت لهم الكلمة العليا واليد الطولى، فأجمعوا قواهم من بعد شتات وتجمعوا على كلمة الحق، واستعانوا بالله وخرجوا مجاهدين في سبيله جمعا وفرادا، وبقوة من الله وعون من عنده أذاقوا عدوهم أشد أنواع الذل والمهانة، وألحقوا بهم رعبا وخوفا، وقضوا مضاجعهم حتى ضاقت السبل بعدوهم رغم كثرة عددهم وقلة عدد جنـد الله: (..كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ). [من آية: 249، سورة البقرة]. فقتـلوهم تقتيلا، ودمروا آلياتهم، وكسروا مدافعهم وبنادقهم، وكم شاهدنا تناثر جثث جنود العدو على الأرض وكأن جزار مر بهم؛ فذبح من ذبح وعقر من عقر. وما كان ذلك ليحدث لولا مدد وعون ونصر من الله لجنوده الأوفياء؛ فقد عرفوا ربهم حق المعرفة ووكلوا أمرهم إليه، ولجأوا إليه واستنصروه ورغبوا فيما عنده. (يَــا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُـمْ). [سورة محمد، آية: 7]. فلقد أخلصوا العمل لله وحده وجعلوا نصب أعينهم هدفين لا ثالث لهما؛ فإما النصر على الأعداء وإقرار السلام ورد المظالم والحقوق والممتلكات التي اغتصبت ونهبت منهم، وإما الشهادة من أجل الدين والوطن والعرض . ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.[سورة التوبة، آية: 111[. فقد فعاهدوا الله على ذلك، فباعوا الدنيا ومتاعها ولم يلقوا لها بالا؛ فهجروا البيوت وفارقوا الأحباب والذرية والعشيرة ولسان حالهم يقول “حياة بدون كرامة ليس لها قيمة، وعيش الذل ندامة وأن التطبيع بؤس وخيانة”. { وَقَاتِلــُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُــمْ}.[ من آية: 190، سورة البقرة]. إِنَّ لِلَّهِ عِباداً فُطَنـــــــــــــا تَرَكوا الدُنيا وَخافوا الفِتَنا
وبما أنه لم تكن لديهم مطامع شخصية ولا يسعون لجاه ولا منفعة دنيوية، إنما الشهادة في سبيل الله كانت مطلبهم ولقاء ربهم غايتهم؛ فتجدهم يتسابقون إلى النزال وإلى نيل الشهادة غير آبهين بالموت، مستبشرين فرحين بما عند الله من عظيم الجزاء وطيب المقام؛ فالموت عندهم كشربة الماء، فلا ترمش لهم عين ولا تجزع قلوبهم منه، ( فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِۦ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).[من آية: 170، سورة آل عمران].
فما أعظمها من منزلة وما أرفعه من وسام للمجاهد حين يلقى ربه وهو مدافعا عن دينه ونفسه وعرضه، مقبلا لله، مخلصا لوجه الكريم، مقدما روحه ونفسه في سبيل إعلاء كلمة التوحيد ورسالة الحق، مقبل غير مدبر مواجها مشتبكا، متمشقا سلاحه، صامدا ثابتا، صابرا شاهدا، راضيا محتسبا.
فسلام لكم أيها الشهداء، سلام عليكم يا أبطال الطوفان، وسلام عليك يا أبا إبراهيم يا إبن السنوار، فسيرتك والله تتلى بالليل وبالنهار، فطبت حيا وطبت أسيرا، وطبت مقاوما، وطبت شهيدا, فلا يضيرك تعفر وجهك بالتراب، فقد أبت شجاعتك أن تفارقك حتى وأنت في الرمق الأخير تحتضر؛ فقد شهدت عليك الملايين وأن تلوح بعصاك لتدمر سلاح عدوك، فما أشبه الليلة بالبارحة وما أشبه ذلك بموقف جعفر الطيار في غزوة مؤته عندما قطعت يمينه أمسك الراية باليسرى، وما أن قطعت اليسرى أخذ الراية بين جنبيه، ألا أنني أشهد لك أنك وقفت نفس الموقف وجاهدت في الله حق الجهاد؛ فما أعظمك وما أشجعك.
هذا وليعلم قاتلوك وأعدائك أن هذا الطوفان لا نهاية له، وأن المسيرة ستتواصل بإذن الله، وأن الله سيخلف من بعدك من هو أشد بأسا وأعظم تنكيلا بهم؛ فلا يفرحوا كثيرا بمقتلك ولا يشمتوا بموتك، وأن لكل بداية نهاية لا محالة، وأن النصر آتٍ لا ريب فيه، {نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}. [من آية: 13، سورة الصف]. وأن غــزة لن تقهر، والأرض لن تعمر إلا بأهلها، وأن المغتصب سيقهر والعدو سيخسر، وأن العدل فيها سيعلو ويسود، وسيزهق الباطل ولن يعود، وستمسح الدموع وستعود الأرض لأهلها حرة أبية، وسترى عباد الله فيها ركعا وسجود.
18 أكتوبر 2024م – إستشهاد المجاهد / يحيي السنوار- غــزة