2024
Adsense
مقالات صحفية

ما لم أقلْه لكِ !!

د. محمد عزيز عبد المقصود
أستاذ لغويات مساعد بكلية اللغة العربية
جامعة السلطان عبد الحليم معظم شاه الإسلامية العالمية ماليزيا
الإيميل /mohamedaziz@unishams.edu.my
mohammadaziz1974@yahoo.com

كم كنْتُ أسعد عندما كنا نلتقي يوما بعد يوم، وما جال بخاطري أن فراقا قريبا سيكون ألما، فكم كانت هناك كلمات يخفيها قلبي، وتتوارى وراء عينيّ لم أقلها لكِ، ولم أفصح عنها!!
عشر سنين عمري الذي كان عمرا عامرا بكل معاني الحب والسعادة والحياة الجميلة المفعمة بالأمل والتخطيط لفجر مشرق نحيا فيه معا ومع أسرتنا، وما توانيْتِ يوما عن تقديم أي مساعدة لي، بل كنتِ منبع الخير كله، فكان الخير بك ومعك، وكم كانت لنا أحاديث جذّابة في نهاية كل أسبوع!! ونحن في أشد الشوق إليها، وكان لها رونق جميل في كلماتها الرقراقة التي كانت تأسرني؛ فأصغي إليها وأنا فرح بكِ أيما فرح! وكنا نُبعد عنا ما يُؤرّق لقاءنا من هواتف وغيرها، وكنتُ أظن أنني بلغة القلوب خبير، لكن.. حقا أنتِ معلمتي.. أستاذتي.. وتذكرت أن هذا ما لم أقله لك!!

ما لم أقلْه لكِ !!
كنْتِ -وما زلْتِ- حياتي التي رسمْتِ معالمها في حب وسعادة، وكم كان يغبطنا عليها كثيرون! وحُقَّ لهم ذلك، فنعم الرزق الذي يكون في زوجة صالحة تبني حياة أسرتها بناء قويما، وقد ملأتْ أرجاء بيتها أُنْسا ومودة ورحمة؛ مما يجعل أيامها كلها بهجة وأمنا وأمانا واطمئنانا، وهذا بدوره يؤثر في تنشئة الأبناء وتربيتهم، فهم الذين تُعقد عليهم آمال كثيرة.
كانت لديكِ طاقات فيّاضة من الحب والعطاء لأسرتك، وكم دعوْتُ الله تعالى أن يهبك عمرا؛ كي تعطي ما عندك! فأنت تحبين العطاء كثيرا، وكنْتُ أستشعر أن حدثا ما سيكون في حياتك يحول دون أن تستمري في عطائك، فحال بينك وبينه مرضك الذي أحاط بك، لكنك كنت ذات عزيمة وإصرار نحو تحقيق أهدافنا التي تعاهدنا أن ننجزها معا؛ وكم تحاملْتِ على نفسك كثيرا ! وكنْتُ أستيقظ ليلا، وأتحسس وجودك؛ فأجدك تنزوين في جانب من البيت تصارعين آلامك دون أن يراك أحد، وأنا أرقُبُ جِلستك التي أتعبتني كثيرا، وأنين آهاتك التي أدمت قلبي، وجال بخاطري كثير مما لم أقله لك !!

ما لم أقلْه لكِ !!
تذكرت يوم أنْ عدنا في لقائنا الأخير وحديثنا الطويل، وقد أحسسْتُ أن نزيف الفراق على الأبواب، وقد تلاشى بريق عينيك مُكتِّما ما بداخلك، وقد تحجّرت دموعك؛ كي لا تشعريني بشيء، وقد استلقيْتِ على صدري، أحاطت بك آلامك من كل جانب، أحاول أنْ أخفف عنك وأنّى لي ذلك؟! ونظرْتُ إليكِ ويدي تُجفّف جبينك؛ فحرارتك في ازدياد وأنين قلبك يصارع الإفاقة، وأكتّم أنفاسي؛ وإذ بدموعي لا أتملَّكُها تنهمر فوق خديك.. تَسيل دما.. تذبحني .. يا الله !! وكأنك تشعرين بي؛ فاغرورقت عيناك، وتشابكت أصابعنا، ولغة الشفاه في صمت.. تَمْتَمَتْ كلاما لم أقله لك !!
وقول شاعرنا وأديبنا غازي القصيبي يمر أمام عينيّ عندما قال في قصيدته “حديقة الغروب” مخاطبا زوجته:
أَيا رَفيقةَ دَرْبي لوْ لديّ سِوَى *** عُمْري.. لَقُلْتُ فِدَى عينيْكِ أَعْماري

ما لم أقلْه لكِ !!
كلما ازاد شوقي إليك ذهبْتُ إلى قبرك قُبيل المغرب أقف.. أدعو..، أتذكر كلماتك التي كنْتِ تقولينها كلما مررنا بتلك المقابر، وكأنك كنت على موعد مع الفراق، وكأنه بين يديك: “عندما تمر من هنا تذكرني، وادعُ لي”، وحينها كنتُ أبتسم، وأقول لك مازحا: (اعمليها وتوكلي ولا تخافي..)، وما كنْتُ أعلم أن هذا سيكون واقعا بعد سنوات قريبة، وكلما وقفت بقبرك ذكّرتك بهذا الكلام، وتذكرت أن هناك كلاما كثيرا كنت أود قوله، لكن.. رضا بقضاء الله تعالى، وإيمانا بأننا سنلتقي، حينها ستعلمين ما لم أقله لك !!
مشاعر قلب وخلجات نفس فاضت كلماتها، فكانت كما هي، ولعل أثرا لها يجد مجراه إلى قلبيْ زوجين حبيبين.
قُوما.. تحدّثا.. لا تكتما شيئا.. أفْرِغا ما في قلبيكما.. فلعلكما لا تدريان أتكون هناك فرص سانحة تسمح لكما بالحديث، أم أنّ حواجز ستحول دون أن يُبدي أحدكما ما في قلبه؟
ليجعل كل منكما حياته حياة لغيره، وما أجملها حياة!! عندما تستشعر أنك تحيا بحياة زوجتك، وهي بك فرحة؛ فقد أغنيتها وملأْتَ قلبها حبا، فما كان منها إلا أنها قيّدت قلبها بقلبك، وفكرها بفكرك، وعالمَها بعالمِك، وجعلتك تاجا فوق رأسها، وحينها أُسْدِل السِّتار.

لعلها كلمة تحيا بها النفوس.. وفي الكلمة حياة، وحياتنا تنبض بالكلمات، وما أحوجنا إلى أن يأنس كل منا بالآخر!! من خلال كلمات طيبة قد لا ندرك أثرها، ونقضي أعمارا لنقولها، فلا تجد أهلها، ونتذكر أننا لم نقل إلا القليل، وحينها يتمنى كل منا أن يلتقي بمن كان أهلا لتلك الكلمات، فيقول ما لم يقله له، وأنّى له ذلك؟!

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights