كلمات جارحة
بلقيس البوسعيدية
تتعدّد الكلمات وتختلف معانيها باختلاف ألسنة قائليها، ونواياهم، ونبرات أصواتهم، فبعض الكلمات تهزُّك وتعبث بموازين مشاعرك، وأخرى قد تُرمّمك، تُسعدك، وتُرجعك من بحور الغرقِ إلى شطآنِ الأمان.
هل تساءلت يومًا عن حجم الأذى الذي يمكن أن يشعر به الواحد منّا وهو يتألّم من وقع كلمة جارحة قيلت له دون حتى أن يدرك قائلها بأنّها قد ولجت إلى قلبه، فضَّت سكينة روحه، وأصابته بجرحٍ نازفٍ؟ هل حدث وأن شعرت يومًا بأنّك تموت ببطء دون من يُشعر بك، دون من يدرك موتك وتلاشيك، تموت لشدّة وقع كلمةً قاسيةً قيلت لك على لسان شخص قريب من قلبك؟ هل آذتك كلماتٌ العابرين وهزّت من ثبات مشاعرك، وجعلتك تعود جنينًا ضعيفًا في رحم الألم؟
كم من كلمةٍ قِيلت؛ فمات سامعها رميًا بها، وكمّ من كلمةٍ هي التي جعلت من الأرواح اليابسةِ بساتين مزهرةً يفوح عطرها رائحةً باعثةً على الأمل.
تفعل الكلمات ما لا تقوى عليه رؤوس السّهام، ففي كل يومٍ تستشهد روح مكلومة في جسد إنسان بسيط ذا أحاسيس مرهفة، لا يقوى قلبه الصّغير على حمل ثقل الكلمات الجارحة، الكلمات التي يحاول جاهدًا أن يصُمّ آذانهُ عن سماعها، ولكنّه ينكسر أمام وطأتها القاسية التي تحطَّم معاني الحياة في داخله؛ فيظلّ يعاني في صمتٍ دون مَن يدرك بأنّه شخصٌ غارقٌ في دماء جروحٍ غائرة، دون حتى أن يملك رفاهية البوح عن أحاسيسه العقيمة التي لا تنجِبُ فيه سوى المزيد من البُؤسِ والظَّلام.
يعتقد الكثيرون بأنّ للعُنفِ معنًى واحدًا وصورة محصورةٌ في إطارٍ ثابتٍ، فأوّل ما تسقط كلمة عُنفِ على مسامع أحدهم حتّى تجد عقله يصور له صورة إنسان هزيل، تعتلي ملامح وجهه كدماتٍ، ندوب، وكسور، إنسان في جسدٍ مهشم مليء بالثّقوب والجروح النّازفة الدّامية، يصوّر له عقله إنسانًا متهالكًا بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى، بينما وللعنف صور مختلفة قد لا تتّضح أعراضها على جسد المعنَّف، فرفض الواقع لك وعدم تقبّله لحقيقتك هو نوع من أنواع العنف. الاستهزاء، التّشهير، المنع، وتشويه السُّمعة، والتعدّي على مساحتك الخاصّة، وفرض الآخر عليك ما لا تطيق فعله أو قوله، هو أيضًا يندرج تحت مفهوم العنف. حرمانك من أشيائك المفضّلة، وهوايتك المحبّبة، وتكسير أجنحة أحلامك، وعدم إعطائك الفرص لإثبات وجودك في الحياة، هو شكل من أشكال العنف. الكلمات الجارحة، الخادشة الهادمة للأرواح، والمتلفة للقلوب هي تندرج تحت مفهوم العنف أيضًا.
قد لا تترك الكلمات آثارًا جسديّةً، ولكن يبقى العنف النفسيّ أشدّ ألمًا من العنف الجسديّ، قد لا تبان الكدمات والجروح على الوجوه ولكنها الأرواح تتمزّق في داخل الجسد الواحد، لا تسيل الدّماء من الأجساد ولكنها القلوب وحدها من تخوض مخاضًا عسيرًا من شعورٍ جارح فتجهض نبضها، وتُغادرها الحياة شيئا فشيئا. فكم هي الوجوه التي تئنُّ ملامحها بصمت وتستشهد بصمت دوَّن من يلحظ موت الحياة فيها، تعاني بصمت تام خلف ستار الهدوء المبلل بصرخاتٍ بكماء وشهقات تستغيثُ دون من يسمع لها. بعض الأرواح المكلومة تتقلّب في الجسد على جمر احتراق قلب صاحبها بسبب كلمة ثقيلة قيلت له؛ فظلّت تنجب في صدره أحاسيس ومشاعر مرهقة، لا يحتمل قلبه ثقل تلك الكلمات التي تغرس سكّين الوجوع في عنق اطمئنانه، لا هو يستطيع إخلاء سبيل مشاعره ولا هو يجد خلاصه منها.
عنيفة هي الكلمات حين تقال على لسان كاره أو قريب مازح، فبعض المزاح يلتصق على جدران القلوب كبقعةٍ سوداء تمدُّ ظلالها على مهملٍ، تنفخ ظلامها في القلوب كليلٍ جريح بلا قمر ولا نجم.
انتقِ كلماتك، وراقب عباراتك، واسأل نفسك دائما ما هو الأثر الذي تتركه كلماتك في نفوس الآخرين..؟!
لا تُكثِر من عبارات المزاح وتذكّر بأن الكلام السّيِئ قد يُؤذي أحيانا حتى ولو كان مزاحًا. ولقلبك عليك حقُّ أيضًا فانتقِ ما تسمعُ دون أن تغرق في ما وراء الكلمات من معنى، فليست كل كلمةٍ تستحقُّ التفات قلوبنا وانشغال عقولنا، فبعض الكلمات تحتاج أن نغرس في عنقها سهام التَّجاهل؛ لتموت قبل أن تصل إلى مسامعنا، ففي التّجاهل سلامةً للرُّوح وعتقٍ من الجروح. لا تجعل كل كلمةٍ تقال لك تصل إلى أعماقك، ولا تدقّق في معاني الكلمات الجارحة، لا تحمل كل كلمةٍ تقال لك على محمل الجدّ، صمّ أذنيك قدر استطاعتك عن سماع ما لا تطيق، وابتر مشاعرك حين يسقط في قلبك حرف يبكيك ويؤذيك، لا تترك قلبك يخالط نبض قلوب العابرين، ولا تصدّق كل كلمةٍ حلوة تقالُ لك، فليست كل كلمةٍ جميلة وراءها قلب، فبعض الجمال ينبت من قلب صخر.