تركتنا… من أجل كأس وغانية
إلهام السيابية
بدأت الشمس تزول للمغيب ومازالت ذيول اشعتها الرمادية تتلاشى بشيء من التفصيل والهدوء وكأنها تعطي لكل من يتأمل في خلق الله مجالا كبيرا لإكتشاف قدرة الله وعظمته في هذا الكون الواسع ، وكأنها تقول للإنسان : لقد خلقني الله مثلما خلقك، من لا شيء لاصبح شيء ، فأحسن خلقي ، وانت أيها الإنسان لا تغير من حالك بل تبقى مصرا على معصية خالقك ، فتوقف الشيخ حمود عن إستكمال حديثه لمجموعة من الرجال الذين يتدارسون في أمور دينهم ويتحدثون في أمور دنياهم ، فامرهم بالإسراع للوضوء لأداء صلاة المغرب ، واسرعت همم الرجال للذهاب للمغاسل للوضوء بينما أسرع هو لإقامة الأذان لإستدعاء الناس للصلاة جامعة مع الآخرين في ذلك المسجد الصغير الذي أقيم في قريتهم الصغيرة قرب البحر ليتجمع أهل المنطقة لأداء الصلوات المختلفة فيه.
إبتسمت ام الحارث وهي ترى إبنها الشاب يسرع خارجا من البيت بعد سماعه لآذان المغرب منادياً، حفظك الله يابني ، وسهل أمرك وانار دربك ، ولكنها توقفت لحظات عن إستكمال الدعاء لابنها الحارث ، بل بقيت تنظر للباب الذي خرج منه وأفكارها تحملها لآفاق بعيدة ماضية ، وذكريات أليمة حاولت ان تنساها، ولكن هيهات هيهات لها ذلك ، وإن تناستها ، فكرم أهل قريتها دوما سيذكرها بانها استطاعت أن تربي اولادها بعد كرم الله من عطاء كل محب حولها ، لم تنسى الشقاء والتعب ، لاحت لها صورة أمها المكافحة امام عينيها، تلك المرأة الفاضلة التي مات زوجها وتركها وحيدة مع طفلتها الصغيرة ، ربتها فأحسنت تربيتها وكبرت وهي تحمل الحب في قلبها للجميع، ولكن لتطمئن عليها أمها زوجتها لرجل حسبتة أهلا للمسؤولية، ولكن بعد الزواج ظهر باطنه المزيف ، زير نساء ومحب للخمر وإذا اخذت الخمرة برأسه أخذ بضرب زوجته وأولاده الصغار الذين لم تتعدى أكبرهم السادسة من عمرها ، ندمت على تزويجه من أبنتها ولكن من يقف في وجهه وهي ليس لها معيل ولا سند في هذه الدنيا إلا الله ، قضت حياتها كلها في صراع مع زوج ابنتها الذي كان يرفض إعطائها المال لتشتري مؤنة لأولاده الصغار من مأكل ومشرب و ملبس ، إلى ان توفاها الله ، وهاهي مريم تنوب عن أمها في حمل المسؤولية ولكن اين تذهب الآن، لمن تلجأ فأهل زوجها يريدون أطفالهم ولكن بدون أمهم ، فعليها أن تتحمل مسؤوليتها بعيدا عنهم ، وزوجها لا طاقة له بتحمل المسؤولية ، فهو إما في السجون أو ينام خارج البيت بين أحضان العاهرات والبغايا، وكأن الله لا يريد لها شرا فابعده عن طريقها، تركها ببيت امها لامعيل ولا سند إلا أطفالها الصغار ، تتأملهم بعين باكية : لولا معاقرة والدهم للخمر لما وصل بالعائلة لهذا الحال ، ضمها بيت امها الذي كان يلاصق دكان صغير بجانبه للشيخ حمود، الذي كان يهتم بأمر أهالي تلك المنطقة ١١، فجعل كل ما يدخل من مدخرات في دكانه هو ملك لمريم وبناتها وابنها الحارث ، فكم سجدت حمدا وشكرا لله على سعة قلوبهم ومحبتهم لها ورحمتهم بها ولأطفالها ،فلم يتركها أهل المنطقة لتحتاج لأحد من اهل زوجها ، وكبر الصغار ، وتزوجت إحدى بناتها بعد صراع شديد من قبل أهل زوجها سؤال وجواب عن أصله وفصله ، من يكون وابن من ؟ واين يعمل ؟؟ ليت تلك الاسئلة كانوا يتقصون بها عن زوجها قبل أن تتزوجه، إلا أنها تنهدت بعمق : لم يتبقى إلا الاثنتين.. ليتني ازوجهما وارتاح ويرتاح الحارث من التفكير في اختيه ومصير كل واحدة منهما، إلا أن اهل ابيهم كانوا لهم بالمرصاد ، هذا غير مناسب، وذلك راغب في مالها وراتبها ، وذاك من قبيلة مخالفة ، والآخر من منطقة بعيدة ، بقيت ابنتيها بلا زواج، وقد مر قطار العمر بهما وعدى وهما بين أمهم المريضة واهل ابيهم الذين يرفضون كل متقدم للزواج ويتدخلون في كل صغيرة وكبيرة في حياتهم ، إلى ان تخلت الابنتان عن فكرة الزواج فامهما المريضة بحاجة إليهما أكثر من حاجتهما لزوج يبعدهما عنها .
ورغم فقرهم إلا ان الله قد سخر لهم الأيادي الكريمة للعيش بعيداً عن التسول والالتحاف بشظف العيش، بعيداً عن سؤال القاسي والداني ، فعلاج امهما يحتاج لعناية خاصة وبحاجة لنقل كلية وذلك لأن كليتيها مصابتان بالفشل، وبحاجة لكلية جديدة إلا انها رفضت عرض ابنتيها للتبرع كل بكلتيهما، فالعمر يمضي، وهي لم تعد شابة صغيرة، ولم يبقى لها إلا سنوات ان لم تكن شهور او أيام معدودة ، أما ابنتيها فهما صغيرتان لتحمل مسؤوليتهما من الان ،فامامهم درب طويل.
وتبقى لحظات الذكريات الصعبة إلا أن عزوف إبنها الحارث عن الزواج لم يسعدها فهي بحاجة لرؤية احفادها ،إلا انه سخر نفسه لامه واختيه، لم يكمل دراسته بل أخذ يبحث عن عمل ليعيل أهله، إلى متى يبقى تحت كنف الشيخ حمود الذي تكفل بمصاريفهم وتربيتهم ، ولكنه لا يريد أن يظل طوال حياته مدينا لهذا الشيخ الفاضل وعليه أن يتحمل المسؤولية فهو رجل البيت الآن، ووجد عملا بسيطا ولكنه يستره من القيل والقال ، ومن السؤال ، وعليه الآن الإهتمام بوالدته التي أتعبها كثرة غسيل الكلى الذي تقوم به في الأسبوع مرتين ، وأتعبه رؤية امه منهدة القوى لا تقوى حتى على رفع يدها فنحل جسمها وقل أكلها فأصبحت ضعيفة القوى ، ورغم ذلك وهي لا تكف وتحن عليه بالزواج ، ولكن الزواج لم يكن من ضمن قائمة او لائحة برنامج حياته ، حاولت أمه أن توضح له رغبتها في تزويجه ليرتاح قلبها وتطمئن عليه إلا أنه رفض رفضا قاطعا حتى التحدث بهذا الأمر… ماذا عليها أن تفعل ؟؟
رددت :توكلت على الله الواحد الأحد، الذي لا ينسى من ذكره في السراء والضراء،.
في يوم ما تأملت أحدى أبنتيها وتدعى أمل والدها وهو يقف أمام عينيها غير مصدقة ، يا الهي إنه بالفعل ابي لم تره منذ فترة طويلة ، تقدم منها وهو رث الثياب، غير لائق المظهر وهو يقدم قدم ويؤخر الأخرى ، وهو يقول : ابنتي الغالية ، لقد كبرتي ، وأصبحت عروس جميلة.
ولكن أمل لم تتحرك شبر من مكانها وكأنها تنتظره ليستكمل حديثه ، وهو يقول متحدثا بحزن : ذهبت للحارث ولكنه أشاح بوجه عني للجهة الأخرى ولم يحاول حتى أن يستمع إلي ، قلبه قاسي، لا يريد رؤيتي ، هذا انا أبوه ، واختك صفاء لم تسمح لي برؤيتها عند زيارتي لها في العمل ، طلبت من رجال الأمن اخراجي من المبنى ،ولقد إستعلمت بانك قد بدأت العمل في شركة معروفة منذ سنتين ولم تخبريني ،وانت كما تعرفين لقد أصبحت عاطلا بلا عمل وانا بحاجة للمال ،
لم تتحمل ليكمل حديثة بل قالت له ‘:
اين كنت ؟؟ اين كنت ؟؟
اين كنت عندما احتجنا إليك ؟
لقد تركك الحارث مثلما تركتنا انت، فانت لم تعاني الم ان ترى امك امام عينيك تعبة ولا تستطيع أن تمد لها يد المساعدة، انت تركتها وحيدة تصارع الحياة وتربى أربعة اطفال بدون سند ومعين الا الله، واختى صفاء لم تقبل باستقبالك لإنك رفضت دخولنا لحياتك ، انت من رفضتنا في حياتك لا نحن ، ولكن الحمدلله اننا استطعنا أن نعيش برحمة من الله وفضله وبمساعدة ممن حولنا وان نقف على أقدامنا فلا نكون ضعفاء للذئاب ولم نكن كنعاج تنساق مع القطيع للمسالخ المنتظرة ، حرمتنا منك ومن قول كلمة ابي وانت حي ترزق .
قاطعها قائلا : هذا كله من حديث أمكم عني و ،،، هنا قاطعتة بقوة وهي تقول ؛ لا تكمل ، امنا رغم مرضها إلا أنها لم تتركنا من أجل خمر ونساء ، امنا هي من زرعت فينا الحب ، وحب كل من حولنا حتى ( أنت) ، تدعو لك دوما بالهداية والعودة لطريق الصواب، أمنا خط أحمر لا تتعداه . خذ ..
وأخرجت بعض المال وهي تقول : هذا ما جئت من أجله ، ولا اريد ان اراك مرة أخرى، لقد مات ابي في نظري منذ ان كنت طفلة وانت من الآن رجل غريب لا أريد أن أعرف عنك شيء .
أخذ المال من بين يديها فرحا وهو يقول : لن تريني مرة أخرى اعدك ، واختفى من أمامها كسرعة البرق، لم يحفل بدموعها ولا بحديثها ، كل ما أراده هو المال ، المال فقط ، لم يكن شوقا او حبا اوحنانا بل مالا، اكملت أمل طريقها وهي تنظر لخيال أبيها الذي اختفى خلف الناس في الشارع وهي تقول في نفسها : لن تحرمني فرحتي ..
كنت اتمنى ان أشعر بحنانك ولو بحضن زائف ولكنك حتى هذا الشعور قتلته بداخلي ، سامحك الله يا ابي. لقد علمتنا امي المثابرة وسنحاول أن نعيد لها ولو جزء يسير من أفضالها، الحمد لله الذي سهل لي امري ، لقد حصلت على مكافأة مالية كأفضل موظفة لهذا الشهر ، كل ما عليها الآن ان تجمع المال الذي كسبتة من الشركة مع المال الذي تحتفظ به مع إخوتها ليستطيعوا ان يقدموا العلاج المناسب لامهم، بالإضافة لعطايا كل الأيادي السخية التي شاركتهم حب أمهم المريضة، فلله الحمد على نعمة التي لا تحصى .