والحزنُ يا أمّي !
عزماء الحضرمية
السلامُ على الحزنِ والمحزونين، وحاملينَه في أعْينِهم وقلُوبِهم، والصابِرينَ علَى آلامِهِ وذكرياتِه، المتمَسكِينَ بخيطِ النجَاةِ منهُ حتّى يوم السؤالِ، وبعدَ كلّ هذا يا أمّي، أوجهُ امتعاضِي الشدِيد لعددِ السنينِ القاتلاتِ المحييات، ما كان عليّ أنْ أكتُبَ كُلّ هذا، فأنا أستنزفُ بعضِي وكلّي بسببِ هذهِ الحروب، وبعدَ السلامِ الفريدِ الذي كانَ كقنبلةٍ غُرستْ بقلبِي فصيّرتْ روحِي أشلاءً، اسمحِي لي أنْ أموتَ مرةً واحدةً في نصٍ لا شأنَ لهُم فيهِ فأنَا أكتُبُ لي يا أمّي فاقرئي حُزنِي!
والحزنُ يا أمّي ! الحزنُ والليالي الغسقياتِ يا أمّي، توأمانِ لا يفترقَان، ثنائيةٌ كساهَا الذبولُ، وشطرُ قصيدةٍ يبحثُ عن تتمتِهِ داخِلي، سطرَا أغنيةٍ ما أتقنَهُما الفنانُ حينَ غرّدَ بهِمِا، الحزنُ والليلُ يا أمّي اثنان، لا ثالثَ بينهُما يُنقذنِي، يُوقظُنِي، أو ربّما يقتُلنِي! الحزنُ يا أمّي لم يترُكْ لِي قلبًا، لمْ يترُكْ لي عقلًا أحكمُ بهِ مشاعرِي، الحزنُ جعلنِي أعيشُ التناقضَ كلّ ثانية، تارةً أشعر وتارةً أشعرُ بأنّني لا أشعر، تذكرينَ الليالي الخرسَاء التي قضيناهَا معًا ونحنُ نتَأملُ السماء، نحاولُ زرعَ شعُور الفرَحِ مرارًا، اليومَ أدركتُ أننّي فقدتُ اتزانَ شُعوري، وانتصرَ الحزنُ يا أمّي!
أمّي: ما يزال وجودكِ هُنا هطلٌ من الحبّ أرتوي منْه، وبالمقابِل ماذا قدّمتُ أنَا لكِ؟، كانَ سقوطِي أمامكِ عذابًا يا أمّي! ، جززتِ الزهرَ من عينيكِ حينَ وجدتِنِي ممزقّة الآمالِ أتخبّطُ لا أقوَى الوقُوف، فَكنتِ الزهرَ يا زهرِي، آويتنِي بين سطورِ حكاياتِك المغنّاة، أنَا لا أعلمُ شيئًا، لكنّني أعلمُ أنّكِ منْ فجرتِ تلكَ الأغنِيات، غنّيتِ الحُبّ، السلامَ، أنتِ غنّيتِ الحيَاة! هربتِ بكلّ الأفكارِ التي تقتاتُ منْ عافيَتي كيْ لا أصابَ برعشةِ السقُوط، فاغفِري لي يا أمّي بعددِ الثقوبِ التي رسمتُها عَلى خارطةِ العالمِ ظنًّا منّي أنّ البحرَ سيصبّ مياهَهُ عليّ فأغْرقُ، ظننتُ أنّ العالمَ مكتظٌ بسببِه فأردتُ تخليصَهُ منهَا بتضحيَتي الساذَجة، وددتُ أنْ أنفسَ عنهُ بوضعِ تلكَ الثقوبِ لكنّني فشلْت، أخبرتِني يومها أنّ العالمَ مليءٌ بالأسرَارِ الموؤودةِ فحَاولي البحثَ في أغوارهِ كيْ تتعلمّي، ما أعلمُه اليَومَ يا أمّي أنّ العالمَ هو ” عَدوّي اللدُود “، واكتشَفتُ مؤخرًا أنّه عالمٌ مُحاطٌ بالبحارِ لكنّها بحارٌ بلا شُطآن، هكذا أنَا دونكِ شاطئٌ ميّت، فإنْ كنتِ لي بحرًا ومددتِ لي أمواجكِ أصبحتُ بكِ أقوى، وإن عُدتِ وهنتُ ومتُّ.
أنَا لا أهابُ الحُزنَ يا أمّي لكنّني كلمّا مددتُ للأيّامِ يدِي بترَت إحدى أصابعِي وأذاقتني حُزنًا بطريقةٍ أبْشعَ منَ التي سبقتْها، ماذَا أيضًا؟ كذبَ ” الصادقُون ” يا أُمّي، نعَم كذبَ الصادقُون! ، أوهمونَا بالحياةِ الهانئةِ وبعدَها اكتشفتُ أنّ الحياةَ لعبةٌ الفائزُ فيها كالخَاسر ، فنحنُ لا نعلمُ ما يُخفيه الآخَرون بدواخلِهم، فقررنَا الاكتفَاءَ بأنفُسنَا، أمّا بعدَ ذلكَ يا أمّي، فالسلامُ على قُلوبِنا ومنْ أودَى بِها وعَلى آمالِنا الراحِلة.