خيام الحنين
منال السيد حسن
“جلست أمامه في فضول وتعجب ليس كمثلهما شيء .. كانت تنظر إليه كما لو لم تراه من قبل .. مغمضة العينين عن كل شيء عداه .. كان وديعا إلى حد القسوة وقاسيا حد لينٍ غريب لم تعتاده معه أبدا.
كانت مرتبكةً جدا .. تتنهد روحها في الدقيقة ألف مرة .. تتوتر كلما تحرك دنوا منها أو كلما تراجع .. كانت لا تجرؤ على النظر إليه لربما افتضح أمرها .. حتما وحسبما باحت روحها أن هذا الوقت ثمين جدا .. هذا الوقت الذي لم تتخيل أبدا مجيئه .. حقا نحن هنا .. وحدنا .. تنظر إليه في ود عجيب مختلسة بعض نظرات هي الحقيقة .. الحقيقة كلها.
كان تعانقه في خفوت وخفاء معلنين.. كأنما صب في روحها نهرا للحب.
يقول دوستوفيسكي ”انظر اليها كيف تتأمله
إنها لا تحول بصرها عنه لحظة, إنها تشرب كل كلمة من كلماته, إنها كالمفتونة أو كالمسحورة به .. لكن إذا قال لها أحد أنها تحبه .. قلبت الدنيا رأسا على عقب”
كانت أنفاسها متهدجة كأنها على أعتاب كارثة .. حتما وكما قالت مستغانمي “كان رجلاً مميزاً جدًا كالبحارة، يقلع دومًا حين يسرقه البحر”، محالٌ أن يدري أحدٌ فيما يفكر، يُلبس ابتسامته معطفًا لصمته، له هطولٌ سري كسحابة تتحدث في غيمة مفاجئة، إنه رجل غريب الأطوار”.
دوما يجعلك تعتادين شيئًا ومن ثم يتخلى عنه، يتحدى أي امرأة في النيل منه، له تمويه خاص في عشقه، حتمًا يؤمن بأن النساء يصرن أجمل في الغياب، يعشق الكلام الذي لا يقال بغير عينيه، ومن ثم تعشق صخب حديثه الصامت .. فلسفته في التحاور حكمة، إجاباته المذيلة بعلامات تعجب نعمة تجعلها تفسرها بكل علامات الإعجاب، يلعب معها دومًا لعبة الاعتراف.. تلك التي تبوح فيها بكل شيء ومن ثم يبوح بلا شيء، صِيَّغ كلامه مختلفة جدً؛ا فهو يُجيب بـ “لا” حين يريد قول “نعم”، ويقول “ربما” حين يكون أكيدًا، كلامه دومًا دون اكتمال؛ حيث يقنعها بأنه اكتمل، يُفاضل دومًا بين الأجوبة أيهما يختار، يعرف توقعاتها للإجابة ومن ثم يختار جوابًا آخر، ويجعلها تصرف النظر عما سواه، بعض إجاباته التي يصرفها عنها تكون أحيانًا هي الحقيقة، كل الحقيقة، يغرس فيها جهد مبالغ فيه لاكتشافه، حين تتذَكى عليه يكشفها في هدوء، قانونه الكوني معقد جدًا، استدراجه في الحديث أشبه بالكلمات المتقاطعة، دومًا حديثه مصاحب بالاستفهام، صمته إعجاز، ومن ثم كل مذاهب الغموض تتفق عليه.
كانت وحدها في تلك الليلة ذات الليل البهيم .. كل شيء هناك كان يسائلها عنه .. خاصة صوت المطر .. الطريق الطويل الذي متى كانوا يسيروا فيه يمتلئ ضحكا وربيعا ..
كل الأنس الذي كان يملأ أرواحهم والسكينة التي نثروها وقتها على جانبي الطريق .. وذاك الرصيف الذي شهد أول شجار بينهما .. وذاك الشجار الذي كانوا يلهون فيه ضحكين.
الطرقات والحواري والشوارع تسائلها عنه بكل لوم ولوعة..
يقول د.أحمد خالد توفيق “يرتجف، ليسَ من البرد، بل مِمَّا هو أدهى من البرد، يرتجف من الحنين”.
هكذا مرت عليها ليلتها تلك حنين جارف .. تذكرت آهات صباح في (ساعات ساعات) وهي تنظر إلى ملامحه التي تتغير دونما وجوده إلى جوارها، وتخرج معها عبراتَ حنينٍ وشوقٍ ووجع، وأنين يلتهب مع شرر الشوق العالق في ثناياها.
تتعجب من أين أتت صباح بالمائة نغم كي يملوا سكاتها ؟!!
بل كيف لرنات النغم أن يتفرش فيها وجع هكذا حين تثقل خطوات الزمن ودقة الساعات ؟!!
هذا الكم من الأمل حين تضحك و تلعب كما عصفور الربيع وتضيع بين طيات النسيم، و فجأة تصحو على دقة الساعات حين تخبرها بأن الأشياء التي تفرحها ما عادت تفرحها، ونفس الأشياء التي تريحها ما عادت تريحها.. و يفوت العمر ليخبرها بأن كل الأشياء في غيابه مفقودة!!
حشرجة الصوت في لعبة الساعات مؤذية .. مهلكة .. مشعلة لحرائق الشوق حين الحرمان!!
التنهيدة في حين العمر فات، وتغير نظرتها للأمور حين تعيش الساعات دونه، مميتة.. مستنفذة لكل رصيد الانتظار و الصبر رغم إيمانها بعودته ذات شهقة للروح!!!
التوق حد التيه .. رهان خاسر لمن ضاعوا في عتمة الفراق، و تشردت أرواحهم اللاجئة على كل بابٍ تبرأ منهم ذات رجاء!!