من خفايا الذاكرة (دروس في تحفيظ القرآن الكريم)
د . حميد أبو شفيق الكناني
حافظ للقرآن الكريم ونهج البلاغة والمعلقات السبع.
وصلنا في بحثنا إلى النوع الثالث من الآيات المتشابهات وهو التشابه بين جملتين في آيتين أو يزيد، ومهما كان حجم الجملة في الآية فإن التشابه يقع في بعض الآية وليس في كلها، وبذلك يمكن للحافظ و الحافظة من تقليص المشكلة وترتيب الحل في عزل محل الإشكالية، فيحدث نظم في ذهن الحافظ و الحافظة ومخيلتهم، حيث يسهل هذا النظم على الذاكرة سحب المعلومة بسرعة، وتكرار هذه الحالة سوف يحول هذا الحل عن طريق الترتيب و النظم إلى ملكة تساهم في التسهيل عن طريق التفصيل.
فعلى سبيل المثال لا الحصر لاحظوا التشابه الموجود في الجزء الأول من سورة البقرة بين الآيتين ٤٨ و ١٢٣.
١- “وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ”
سورة البقرة الآية ٤٨
٢- ” وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا لَّا تَجۡزِي نَفۡسٌ عَن نَّفۡسٖ شَيۡـٔٗا وَلَا يُقۡبَلُ مِنۡهَا عَدۡلٞ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَٰعَةٞ وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ”
سورة البقرة الآية ١٢٣.
طرح و شرح الإشكالية مع الترتيب و التنظيم وفي النهاية الحل حسب الاستخراجات التالية:
١- بداية الآيتين من المكررات ولا إشكال في ذلك:
” وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا”
٢- نهاية الآيتين من المكررات ولا إشكال في ذلك:
“وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ”
٣- التشابه في وسط الآيتين فقط، وهذا يعني أن الإشكالية في بعض الآية وليس في كلها ومن هنا يبدأ الحل عن طريق العزل.
وقس على ذلك بقية المتشابهات من النوع الثالث وابحث عن الحل بالتسهيل عن طريق التفصيل.
وهنا ينتهي بحث الآيات المتشابهات.
ولم يتبق من هذا البحث إلا الأمثلة من النوع الثالث، وهو التشابه بين آيتين أو أكثر في جملة.
والمثال المختار من سورة الإسراء:
حيث إن الآية رقم ٩٨ فيها بُعدين من التشابه، البعد الأول داخل السورة وهو مع الآية رقم ٤٩ كم يلي:
١- “ذَٰلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا”
سورة الإسراء الآية ٩٨
٢- “وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا” .
سورة الإسراء الآية ٤٩
وهذا التشابه من نوع المكررات تقريباً فقد تكررت الآية رقم ٤٩ في نهاية الآية رقم ٩٨ وهذا النوع فيه تسهيل كثير، حيث إن هذا التكرار جعلها نصف الآية واللافت للنظر أن نصفها في العدد أيضاً.
للإيضاح أكثر: إن الآية رقم ٤٩ نصف ٩٨ وأن كل هذه الآية جاء في نهاية الآية ٩٨.
وأما البعد الثاني للتشابه بالنسبة للآية ٩٨ فهو خارج السورة في الآية ١٠٦ من سورة الكهف:
“ذَٰلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا”
أيضاً نلاحظ أن نقطة البحث أي التشابه في جزء من الآية وليس في كلها فلاحظ:
١-” ذَٰلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا”
الإسراء ٩٨.
٢- “ذَٰلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا”.
الكهف ١٠٦
مع أن الآيتين تبدآن بجملة مشتركة مكررة (ذَٰلِكَ جَزَاؤُهُمْ) وهكذا يكون التسهيل عن طريق التفصيل.
وكذلك للآية رقم ١٠٦ من سورة الكهف متشابه آخر في نفس السورة وهو الآية رقم ٥٦:
” وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ۚ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ۖ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا”.
وعند تحديد نقطة التشابه لا نجدها سوى كلمة واحدة في جملة واحدة في نهاية الآية ٥٦ فقارن بين الآيتين:
١-” وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا.
الكهف “١٠٦
(وَرُسُلِي)
٢-” وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا”.
الكهف ٥٦.
(وَمَا أُنْذِرُوا)
أما بداية ووسط الآية ٥٦ فليس فيه أي تشابه بل هو نص سهل ومن مكررات القرآن الكريم.
فقد تكرر هذا النص في سورة الأنعام في الآية رقم ٤٨:
” وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ۖ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ”.
وهكذا هي الآيات المتشابهات فإنها جمل متشابهة بين آيتين وليس آيات كاملة.
مثل الآية المذكورة التي تنتهي بالجملة المشهورة:
” فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ”.
أو جملة:
” فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ”
فقد ورد المتشابه لها في سورة الأعراف في نهاية الآية رقم ٣٥
“يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي ۙ فَمَنِ اتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ”.
نقاط التشابه:
١-” فَمَنِ اتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ”
تشابه في كلمة وهو من النوع الثاني.
٢- “فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ”.
تشابه من النوع الأول وهو من المكررات.
والإشارة تغني عن العبارة.
أو إياك أعني فاسمعي يا جارة.