ذكريات من طفولة قروي..من أدب السيرة الذاتية
د. أحمد محمد الشربيني
لقد اشتهرت قريتي صافور القابعة بشمال محافظة الشرقية المصرية بأجواء رمضانية ساحرة، خاصة في حقبة الستينيات والسبعينيات، حيث كان الأطفال يمرحون ويلعبون في شوارعها وأزقتها لا سيما في شهر رمضان المعظم، فيقطعون الدروب، ويجوزون المسالك والعطفات راكضين في سعادة وحبور وراء أحلامهم الوادعة ولهو طفولتهم اليانعة؛ فترى الصغار يتنقلون بين الحارات، كحارة اللاوية وتسمى (المنافيلا)، وقد سميت بذلك؛ لأنها تشبه منافيلا الجرار الزراعي، وتبدأ من زُقاق الأستاذ أحمدالشعراوي مرورًا بعطفة آل الريس، وصولاً إلى منزل الأستاذ سيد المحط، ثم ينتقلون إلى (حارة الضلمة) التي سميت بذلك؛ لظلامها الدامس ليلاً وموضعها ما بين أجزخانه أبو خاطر والحاج بيومي القماش ومرابع آل فياض، كذلك حارة (الكتاب) التي تبدأ بكتاب الحاج علي سويلم القديم وتنتهي بالزقاق المسدودة عند الأسطى فاضل، كذلك يلهون في حارة (الزاملي) نسبة لعائلة الزاملي وموضعها شارع محمد المحط والسيد المحط، ثم يتجهون شطر (حارة الفقهاء) حيث منازل الشيخ على عبد المنعم بحيري وأولاده وأخوته، ثم تخفت خطواتهم أمام ضريح العارف بالله الشيخ بشير؛ فيستحثون خطوهم قبيل ناصيته ثم يمشون بمحاذاة الضريح في خشوع وسكينة.
وقد يوغلون في ركضهم وعدوهم حتى شمال البلدة؛ فيغشون حارة (الشرشوحة) وقد سميت بذلك؛ لأن الحريم في ذلك الحي اعتدن على الشجار بشكل يومي لأتفه الأسباب، وكن يتنابزن بهجاء شعبي موزون أمام المارة دون خجل فيقتطع الصغار قليلاً من لهوهم لسماع تلك المنابزات النسائية التي تشبه نقائض جرير والفرزدق، فيتعجبون من تلكم الألفاظ النابية التي تقذع الأسماع!! … وقد ينحرف الصغار ناحية الشرق حيث منزل الحاج مصطفى عافية ودواره المقابل لمنزل الأستاذ نيازي عافية، ثم سرعان ما يتخذون الطريق المؤدية لمسجد الباز، ثم يشقون طريقهم قريباً من منزل عبد المجيد بك عافيه الذي حصل على البكوية قبيل ثورة يوليو، وقد يغيرون وجهتهم فينطلقون نحو حارة العارف بالله سيدي عبد الرحمن العراقي، وقلما يصلون إلى المقابر حيث كان الأطفال يهابون دخولها مخافة وارد المقابر وحراسها؛ لذا كانوا يتراهنون على من يدخلها ليلاً ويكتب اسمه بالطباشير على أحد جدرانها.
وكان شارع الحاج حافظ هلال المؤدي إلى المسجد الكبير ذا عبق تاريخي مميز، حيث كان به ثلاث قناطر خشبية معلقة لعل أشهرها القنطرة الخشبية التي كانت تربط بين منزليه: القديم(منزل والده الذي تم بناؤه عام(١٨٥٠م)، وكان في أسفله محله التجاري بأقسامه وبين منزله الجديد الذي تم شراؤه في الأربعينيات(وبه حالياً محل حفيده الأستاذ أحمد عبد الرحمن هلال)، وقد صمم الحاج علي الهجرسي هذا الممر الخشبي وقام النجار أبو حليمة بترجمته على أرض الواقع؛ فاستوى على سوقه وتم رفع أخشابه على قوائم حديدية، وكان الممر مرصعاً بالأرابيسك وذا سقف مغلق على نحو يشبه كباري المشاة القاهرية في عصرنا الحديث، بحيث يمكن للناظر من نوافذه ومطلاته أن يري مَن بأسفله من مارة الشارع ولا يستطيع المارة أنفسهم رؤية من يطلون من تلك القنطرة المعلقة، وقد طالت النيران القنطرة الأولى والثانية في حريق صافور الشهير عام ١٩٢٧م وبقيت القنطرة الحديثة التي صممت في أوائل الأربعينيات تقاوم عوادي الزمن حتى خارت قواها وتداعى مبناها فزايلت دعائمها ورضت أن تخلد إلى الأرض.. في فترة السبعينيات!!
وكم كان المشترون يتقاطرون على دكان الحاج حافظ هلال في شهر رمضان وفي غيره من أيام السنة؛ حيث كان الدكان نواة (مول) تجاري مصغر بالمصطلح المعاصر؛ فثمة مطحنة للبن وهناك مصبغة بجوار المحل القديم، وكنت تلاحظ في دكان البضائع التموينية براميل الزيت المتراصة بشكل منظم، وكم كان نقل الزيت وتعبئته أمرًا شاقًا على التاجر السبعيني وحفيده الأصغر أحمد حافظ في ذلك العهد!!
فقد خصص شيخ بندر تجار صافور مخازن للزيت؛ ليضخ المادة الخام من خلال طلمبة(مضخة) عن طريق ماسورة ثم توضع في صفائح متوسطة سرعان ما يتم تفريغها في عبوات أصغر حجماً؛ فيا لعبقرية شيخ بندر تجار صافور!!
كما خصص الحاج حافظ مدخلين: الأول للنساء والآخر للرجال؛ حتى لا تزاحم المرأة الرجل، و إمعاناً في الاحتشام والانضباط الاجتماعي، ومنعاً للاختلاط.
وكان يمكن للسائر صوب ميدان الجامع الكبير أن يطالع القنطرة الخشبية للحاج علي الهجرسي تلك التي صممها في الثلاثينيات لتصل ما بين داره ودار أخيه الحاج مشه الهجرسي، وقد ظلت على حالتها ردحاً من الزمن حتى لقت مصير صويحباتها الهلالية، وتم تفكيكها مع مطلع الألفية بسبب التحديثات المعمارية للمنزلين؛ ولأنها كانت تعيق حركة الجرارات المحملة بأقوام القش في موسم حصاد الأرز؛ نظرًا لدنوها من الأرض بفعل عوادي الزمن والارتفاع النسبي للقشرة الأرضية كل عام.
و كانت ليالي رمضان في صافوراء يحييها الفقهاء والقراء، فلدى كل عائلة قارئ ومدعوون متراصون وحول منازلهم أطفال يلعبون.
وكان للمسحراتية حظ وافر من الإرث الرمضاني وعبقه التاريخي، فهذا الحاج إبراهيم الزاملي، والعم نصر بسيسة، والعم السيد الحسيني يجوسون الأزقة والشوارع والحارات في الستينات والسبيعينات معهم المصابيح وبيدهم الطبول أو الصاجات؛ فينبهون المتسحرين ويوقظون النائمين عن صلاة الفجر، وكم كانت الحركة دائبة طوال الليل بفعل السهرات الرمضانية، فلدى كل عائلة قارئ صافوري وعندما يندر القراء بسبب تزاحم الطلب عليهم يتم استقدام بعضهم من أكناف صافور وما صاقبها من البلدان، فتسمع آي القرآن تملأ الأركان، فثمة شيخ عند عبد المجيد بك عافية، وهناك فقيه عند آل فياض، وثمة ثالث عند آل خاطر، ورابع عند آل الديب ناهيك عن آل الفقهاء، وحضرتهم القرآنية طوال شهر رمضان؛ فالبيوت مفتحة الأبواب بها مالذ وطاب، والقراء طوال الليل يقرؤون تحوطهم أكواب الشاي والقهوة حتى السَّحر، وكان الصغار يجلسون على عتبات تلك الأمسيات المنزلية فيستمعون إلى القراء في إجلال وإكبار ومهابة ووقار، خاصة لشيوخ الكتاتيب الذين اعتادوا رؤيتهم والتتلمذ على أيديهم.
كما كان من سمت أطفال ذلك الزمان المواظبة بعد صلاة العشاء حتى قبيل الفجر على ألعاب شعبية توارثوها عن أسلافهم؛ مثل لعبة الحبل العشرة والعشرين، والفرقلة(أصلها فلاغلون باليونانية وتعني السوط الذي تضرب به الدواب)، والحمارة الطويلة .. ولعبة لمس الحمام..
والتطييرة…واستغماية الخ…. أما الشباب اليافع فكانوا يتراهنون على تكسير حزم القصب بضربة واحدة، وقد اشتهر بذلك الحاج فتحي عبد الله والحاج شحات سيد الأهل، وكم كان الشباب يتمادون في رهانهم ويغالون في تحديهم، حتى أن أحدهم راهن على ابتلاع جالوس يابس (قطعة من الطين)؛ نظير رهان قدره خمس تعريفات (نصف الشلن)!!
وقد تم له ما أراد وسط زهول الصبية والأطفال الصغار، ولم لا والفتى لم يُصب بسوء!!!
كما كانت (العشة) الرمضانية عادة صافورية عاصرها كاتب المقال نفسه؛ حيث كان الصغار يبنون كوخًا من البوص والحطب ويعرشون سقيفتها بسعف النخيل، ويدعمون جوانبها بصنوف من عيدان الهندي والغاب وحطب الذرة، وعندما تدخلها تجد فانوساً متدلياً أو لمبة بشعلة، ثم يفترشون أرضيتها بكساء قديم أو ملاءة متهالكة يضعون عليها لوازم الشراب وسمر الأتراب من أكواب وكنكة وسكر وشاي شيمتو التمويني مما تم جلبه خلسة من وراء أمهاتهم، حيث كانوا يجلسون تحت سقيفتها لقص الأساطير الريفية ونوادر الفلاحين وقصص المطاريد والمغامرين، وقد يتداولون قصص الجن والعفاريت فيما بينهم دون خوف، ولم لا وقد صفدت الشياطين وغارت العفاريت والغيلان في باطن الأرض طوال رمضان مخافة أن تقبض عليها ملائكة الرحمات التي تتنزل كل ليلة على بيوت الذكر لسماع آي القرآن!! وقد يشطح الصغار بأحلامهم فيتحدثون عن أهل القمر وسكان الفضاء متأثرين بفيلم سوبر مان لكريستوفر ريف عام ١٩٧٨م وفيلم الخيال العلمي (( إي تي)) الذي أنتح عام ١٩٨٣م وقد تمكن الأطفال من مشاهدتهما بعد عرضهما على الشاشة الصغيرة عبر برنامج نادي السينما.
وكم كانت تلك العشش عرضة لعبث الحاسدين وأيدي المخربين من الموتورين في الحارات الأخرى!!! فكانت الحارة المنافسة تتحين الفرصة السانحة لتدمير هذا الكوخ المتواضع وتعده قربانًا لزعامتها ودليلاً على انتصارها وقوة هيبتها بين الحارات الأخريات؛ فكانوا يرسلون النذر والعيون أولاً قبيل الإفطار، ثم يبدأ التدمير بشن غارة مفاجئة على العشة البائسة على حين غرة من أطفالها المتراصين حول طبلية الإفطار المنهَمكين في تناول لذائذ الطعوم والمشروبات وسماع الفوازير التلفزيونية؛ فكانت شارة الغارة أن تصدح شريهان على أنغام تتر مسلسل ألف ليلة وليلة، ساعتها يقوم العابثون المتربصون بقصف العشة بوابل من الحجارة والظلط ويخلعون أطنابها وسيقانها ويبعثرون فرشها ويسلبون أمتعتها البسيطة من شاي وأكواب ثم يضرمون النيران في ركامها زيادة في التنكيل والتخريب!!! وقد ينتبه الأطفال للغارة بفضل طفل أوكلوا له مهمة نوبة الحراسة وقت الإفطار فيئدونها في مهدها إذ يهرعون صوب صوت النزير وهو يقول:شبري برم العشة هتتهدم!!! فيمتطون صهوة سيقان الحطب وسعف الجريد؛ ليحاكوا الفرسان ويتخذوها جيادًا تغشى الميدان ويطلقون زمجرة تحاكي الأُسدان فيصدون العداة عن كوخهم الحصين ووكنهم الأمين، بل أحياناً يتمادون في تتبع المغيرين حتى يجلوهم عن بيوت حارتهم ومداخل أزقتهم، أما إذا ناموا عن حراستها في غمرة الفوازير وسكرة حديث شهرزاد؛ فسيبكون على أطلالها حين لا يجدي الندم ولا يعيد بُنياناً من عدم!!!
لذا سميت تلك الحقبة بما يسمى (حرب الحارات) التي كان عمادها استهداف العشش الرمضانية في المقام الأول!!! وقد انتشرت في الستينات والسبعينات واضمحلت مع أواخر الثمانينيات.
كما كان أطفالنا يحرصون على اقتناء الفوانيس المزركشة التي تكتسي باللون البمبي والأصفر غالباً؛ حيث كانوا يتقاطرون على دكان الحاج محمد عزب والحاج حافظ هلال والحاج محمد سيد المحط من أجل شرائها قبل النفاذ، ولم تكن تعمل ببطارية أو لمبة كهربية صغيرة كما هو الحال الآن؛ بل كانت بسيطة بدائية تعمل بشمعة صغيرة سرعان ما تخبو جذوتها بعدربع ساعة!!
كما كان بإمكان السائر في شوارع البلدة وأزقتها أن يطالع الزينة الرمضانية المعهودة، تلك التي كان عمادها خيوط من كتان يتدلى منها قصاصات من ورق أبيض ذي شكل هلالي بتنسيق هندسي يشبه في تصميمه ذيل الطائرة الورقية، وكم كان أطفال الحارات وصبيانها يتباهون بتزيين شوارعهم قبيل شهر رمضان، ويبتاعون في سبيل ذلك لوازم الزينة من الدكاكين سالفة الذكر؛ فيجودون بكل غالٍ ونفيس من أجل تحصيلها والسهر على تنسيقها وربطها، تساعدهم الأمهات في تجهيز عجينة اللصق كبديل عن الغراء والصمغ العربي، كما كان إخوانهم من الشباب اليافعين يعاونونهم في رفع الزينات وربطها بإحكام في الشرفات العلوية بشكل منسق لا يعيق مرور الجرارات أو العربات المحملة بالبضائع.
وقبيل العيد بأسبوع تبدأ الأمهات في تجهيز العدة لعمل المخبوزات المعهودة من كعك وبسكويت وغريبة؛ فيهرعون إلى دكان الحاج حافظ ويأتون من كل حدب وصوب لشراء مستلزمات عجينة الكعك من خميرة وفانليا ورائحة، وكان الحاج حافظ تاجرًا أريباً ينتقي بضاعته ويحفظها جيدًا، فكان لديه (كلوب) مصباح ليلي في العشرينات ثم مكينة كهربائية لإنارة المنزل والمحل، وكان من أوائل من اقتنى ثلاجة في محل تجاري علي مستوى الدلتا؛ فبدأها بثلاجة بدائية تبرد الأطعمة من خلال الثلج، ثم عمد إلى ثلاجة تعمل بالبطارية، وفي الخمسينات اقتنى أخرى تعمل بمكينة الكهرباء وكانت باهظة الثمن لأنها إنجليزية الصنع. وكان مشهورًا ببيع خميرة بيرة للكعك والبسكويت، وكانت أوقية الخميرة تباع في الستينات بخمس تعريفات أما العشرين أوقية فتباع بخمسة جنيهات!!!
كما كان أجدادنا محبين للعمل الخيري خاصة الأسبلة، فكنت تطالع أينما سرت الأزيار تملأ الأزقة وتجد جرار المياه (القلل) ذات اللون الأبيض برأسها الطولي المعهود وصنوتها البنية دائرية الشكل يزينان شرفات الديار، وكم كانت تلك الجرار الفخارية بطبيعتها البدائية تمثل الوسيلة الشائعة آنذاك لتبريد المياه لا سيما في الستينات ووسط السبعينيات، كما اعتاد أهل البلدة على دق طلمبات خيرية لسقاية الناس لعل أشهرها طلمبة الزاملي، وكان موضعها جرن العيلة وهي وقف لعائلة أبي عافية، ولما كان الزاملي- رحمه الله – هو من يديرها لسقاية الناس والبهائم وشاعت تسميتها باسمه، وكان الحاج الزاملي – رحمه الله- رفاعي الطريقة مفتول الساعدين لا يكل ولا يمل عن ذكر الله، وكان أهل الحي يثمنون تطوعه فيأتون إليه بصينية أكل بها ما لذ وطاب من أصناف الطعوم؛ جزاء جهده وتعبه طوال اليوم.
كما كانت هناك طلمبة وسط البلدة في موضع منزل الحاج فتحي أبو عامر قبالة منزل الحاجة سكينة – رحمها الله – وكانت نساء الحي وما حوله من الحارات الشمالية للبلدة يتوافدن عليها لأجل سقاية أوعيتهن وجرارهن.
وفي العيد كان جرن آل الزيات موئلاً لمظاهر الفرح والبهجة كل عام؛ فتجد الأراجيح تملأ الساحة وكان أصحابها يتقاضون ثمناً زهيدًا جراء ركوب تلك الأراجيح بل كان بعضهم يُركب الطفل؛ نظير قرصة أو فطيرة ومن أشهر الشخصيات التي أدخلت البهجة على أطفال صافوراء الحاج عبد الحميد عامر – رحمه الله- والحاج محمود الريس – رحمه الله- والعم محمد غنيم – رحمه الله-
كما أن ساحة الجامع الكبير كان لها نصيب وافر من مظاهر العيد؛ حيث صمم الحاج علي الهجرسي أرجوحة دائرية الشكل في صورة أحصنة تدور عكس عقارب الساعة… رحم الله الحاج علي، فكم كان من العقليات النادرة في مجال الابتكارات والاختراعات التي شهدها جيل الستينات والسبعينيات لعل أشهرها تصميم وصناعة المراوح بشكل يدوي، وكانت ورشته بجوار المسجد الكبير بمثابة معمل متواضع لمخترع عبقري لم يسعفه زمنه على تحقيق آماله العريضة!!
ولم يكن جهاز التلفزيون عرف طريقه إلى البلدة في الستينات لأن الكهرباء لم تدخل صافوراء إلى أوائل عام١٩٧٠م؛ لذا كانت السينما التي مقرها مركز الشباب هي المتنفس الثقافي الوحيد لشباب القرية ، حيث كان يعرض بها أفلام وثائقية بإشراف الاتحاد الاشتراكي في الحقبة الناصرية تتناول مبادئ الثورة وتصوير حال مصر في ظل حكم الإنجليز وبيان فظائعهم بمصر، كحادثة دنشواي ومذبحة البوليس بالإسماعيلية، كما كانت تعرض بعض الأفلام الكلاسيكية لعماد حمدي وشكري سرحان، ومن أشهر أفلام تلك الحقبة رد قلبي وأدهم الشرقاوي وريا وسكينة ومأساة جميلة وفيلم بورسعيد والناصر صلاح الدين الأيوبي وفيلم الله معنا، وكان يشرف على مركز الشباب الأستاذ عبد العظيم فياض والأستاذ عبد الرحمن حافظ عافية، وكان الشباب والصبية يذهبون لحضور العرض السينمائي ليلاً بحضورالخفر وضابط النقطة، وكان المرحوم الحاج علي السواح شيخ الخفر بمعطفه المعهود وبندقيته ذات المسورتين وعصاه الخيزارن يرتب المكان ريثما تقوم ماكينة كهرباء الوحدة في الستينات بعملها وسط فرحة الجميع… وقد ظلت صافوراء على تلك الحال حتى انفرجت مشكلة الكهرباء عام ١٩٧٠ م بمجئ الدكتور فؤاد محي الدين محافظ الشرقية آنذاك الذي جاء بنفسه لافتتاح أول كشك كهرباء يغذي البلد… وكان يومًا مشهودًا اجتمع فيه أهل صافوراء من الوجهاء والعلماء والفقهاء والمعلمين الأجلاء وجماهير الفلاحين الأصلاء يتقدمهم الشيخ أحمد الباز والحاج محمود أبو عافية والحاج عبد الفتاح الديب رحمهم الله.
أما عن قصة الراديو فهي قديمة حيث كان عبد المجيد بك عافية من أوائل من اقتنوه، وفي الخمسينيات كان ثمة راديو للحاج أحمد هلال وضعه داخل محله، حيث كان الناس يأتون لسماعه مقابل مبلغ زهيد أو شراء بضاعة ومسليات، ثم يمكثون ثلاث ساعات كاملة هي مدة الحفل الشهري لكوكب الشرق أم كلثوم، ومن الثابت تاريخياً أن عددًا من وجهاء البلدة كانوا يواظبون على حضور حفلات الست في القاهرة، يتقدمهم الحاج حافظ هلال والحاج إبراهيم حسن مرمر والحاج مصطفي أبو الحاج علي والحاج محمد الهادي عافية، إذ كانوا يستقلون عربة واحدة من صافور إلى سرادق الحفل في العاصمة، وكانوا قبلها يستقلون القطار من بندر الزقازيق إلى القاهرة مباشرة، ومع حلول الكهرباء في السبعينيات بدأ الراديو في الانتشار، كما ظهرت أجهزة التلفاز على استحياء، فلا يخلو حي من جهاز يجتمع حوله عشرات الأهل من الجيران والأصحاب والأطفال؛ حيث كان يعرض آنذاك مسلسل مارد الجبل لنور الشريف وتوفيق الدقن، ومسلسل قصر الشوق وعيلة الدوغري… ناهيك عن الرائعة الإذاعية ألف ليلة وليلة لزوزو نبيل وحواديت أبلة فضيلة.
وكم اقتنى الحاج حافظ ماركات متنوعة من الراديو ماركة ناشونال وفليبس، وكان من عادة المسحراتي أن يسير وراءه الأطفال بالفوانيس لإيقاظ البيوت النائمة؛ فيقرعون الأبواب بشدة، وكان كل شارع ينهض بإيقاظ أصحابه للسحور، أما المساجد فكانت تمتلئ في صلاة الفجر أكثر من أي صلاة أخرى!! فقد كان فلاحو البلدة يبدأون يومهم بصلاة الفجر ثم ينتشرون بعد صلاتهم إلى حقولهم ومزارعهم ومرابط مواشيهم، أما الحضرات فكانت تتوقف في الشهر الكريم، وتعاود نشاطها أسبوعيًا في غير رمضان الكريم؛ فهناك حضرة الشيخ علي عبد المنعم بحيري وحضرة الحاج حافظ هلال وحضرة الحاج أحمد الباز وحضرة الحاج عبد السلام العطار -رحمهم الله وطيب ثراهم- وجعل الجنة مأواهم ودار سكناهم آمين.
وكانت الليالي الرمضانية لا تخلو من الحكايات الشعبية والفلكلورية؛ مثل قصص النداهة والجارية التي تناديك وتتشكل في هيئة صاحبك، ثم تسوقك إلى حيث تضلك في متاهات الحقول والغيطان، كذلك قصة (أبو شعلة) الذي يمسك النار بيده ويجري منتصف الليل وسط الحقول بسرعة البرق، كذلك قصة الحمار الذي يطول ويقصر، وحكاية العبد المارد الأسود الذي يظهر في أيام محددة من العام في أطلال منزل قديم بشارع الحاج جودة كشك رحمه الله… وكم كان أجدادنا يكثرون من تلك القصص لأطفالهم أو أحفادهم كي يركنوا إلى الهدوء والسكينة ويلزموا بيوتهم وفُرُشَهم بعد صلاة العشاء!!
وفي العشر الأواخر من رمضان كانت المساجد تقتظ عن آخرها بالمصلين لأداء صلاة الجماعة والإكثار من النوافل لا سيما صلاة التراويح، وكم كانت الأجواء الإيمانية تنشر نسائم الرحمات وأريج البركات على سماء قريتنا!!
فما من حارة إلا وبها ختمة قرآنية أو سهرة رمضانية، وكان قُراء بلدتنا وشيوخها ينبثون في البيوتات العريقة والمضايف العتيقة والغرفات الأنيقة لدى الميسورين والوجهاء والتجار والنبلاء من أجل إحياء الليالي المباركات بأعذب التلاوات وصوفي الموشحات، يتخللها دوي منتظم الصوت للأذكار والأوراد التي يتمتم بها الآباء والأجداد مع الصغار والأولاد، ومع اقتراب العيد كان بمقدور السائر ليلاً أن يشتم رائحة الكحك والبسكويت وصنوف عجائن العيد الفلكلورية؛ كالقراويش(القراميش) والمِنين والغُريبة والكحك المحشي بالملبن والعجوة، بل تستطيع أن تميز بينها من فرط تشبعها بأجاويد السمن البلدي ومكسبات الطعم من ملبن وزبيب وجوز الهند والفانيليا، ولم لا وقد كانت أمهاتنا يجتهدن في إعداد تلك الفطائر ويحتشدن لتجهيزها بكميات هائلة تكفي لإطعام الأسرة بأكملها لعدة أشهر، فكانت الأزقة والشوارع تفيض بحركة دائبة من أجل جلب لوازم الكحك من لدن دكاني الحاج حافظ هلال والحاج محمد عزب، كما كانت أمهاتنا يجتمعن ونساء الحارة حول الطبالي والصواني في حلقات دائرية من أجل إعداد عجائن الكحك وتشكيلها بشكل يدوي بأدوات فنية بدائية الصنع، ثم يحتشدن أمام الافران البلدية المنبثة آنذاك في كل البيوت الريفية من أجل تسوية الصواني بعد أن قمن في الفجر بإعداد لفائف القش الخاصة بإيقاد الأفران والتي كانت تشبة الفيونكة، ثم يتأكدن من نظافة صاجة المحماة (الفرن) وخلوها من أي حشرات أو هوام من أجل تسوية فطائر الفرحة على الوجه الأمثل، وكم كنا نلحظ مظاهر التعب ونعاين مخايل الوصب على وجوه أمهاتنا وهن يتصببن عرقاً؛ جراء صهد الفرن وجهد تقليب الصواني بين الحين والحين، وكم كنت تلحظ تواصل الأجيال وتناغمها أثناء تسوية الكحك! فالأمهات يجلسن أمام الفرن ونساء الجيران يعدلن لهن الصواني، والبنات والفتيات يحملن الناضج لتفريغه بين الفينة والفينة في أسبتة وشنان وكراتين جيدة الإحكام، ثم يحملنها تباعاً كي يحفظنها في غرفة القاعة(حجرة الخزين) تحت مراقبة حازمة من كبيرة الدار ومحور المدار القيمة على تهذيب الأطفال وتوجيه الكبار، فكانت الجدة بما لها من عزم وحزم ووقار تشرف على تلك العملية؛ كي لا تتعرض المخبوزات للتلف أو عبث الصغار، وكم ظلت كلمة ستي المشهورة يرن صداها في أذني منذ الصغر حتى بلغت مبلغ الشباب وهي تقول:((يا ولدي لا تأكل الكحك ساخناً كي لا تصاب بسوء… دعه يبرد إن الله مع الصابرين)).
وكم من عيد لم نأنس فيه بتذوق تلكم المخبوزات المعهودة؛ جراء حالة وفاة عزيز في العائلة أو جار من أهل الحارة، حيث كانت الأسر يواسي بعضها بعضاً، فلا تشتم رائحة الكحك في أي منزل في حارتنا أو الشوارع الملاصقة تضامناً مع الجار المرزوء، وكم كنا نضجر لهذا الحدث، ونعده تحيالاً من الأمهات على غير – عادة أهل الشرقية – للتملص من تبعات الكحك ومشقة تجهيزه؛ فيستجدون في البحث عن الكعك في البيت وسائر منازل الحي لكن دون جدوى بحجة دامغة شعارها ((كحك إيه ياولدي… عيب جارنا متوفي))!!!
لكننا نحن الصغار ما كان يحذبنا عائق في سبيل تحصيل أمنيتنا المتواضعة، ففي مثل تلك الظروف لم نكن نفقد الأمل حيث اعتدنا الذهاب يوم العيد لمنازل الأقارب النائية عن الحارة لجلب العيدية والإجهاز على الكحك ذي الرداء الأبيض المغطى بالسكر الناعم!!
أما عن مظاهر العيد فكانت متواضعة تخلو من عبث التكنولوجيا وزخرف الحضارة، لكنها كانت على سذاجتها وبساطة أدواتها تضفي علي الشارع جوًا من المرح والسعادة؛ فالبنات يحملن البلونات وآلات الصفير والنغم النضير، والصبية الصغار يطلقون أعيرة من مسدسات الصوت التي تم شرائها بعدة قروش من حوانت خردوات العيد، وما أقلها في هذا الزمان!! أما الشباب اليافعون فكانوا يلعبون لعبة البريزة والغربال وهم يحتسون شراب السوبيا الحمراء والصفراء، كما كانوا يتبارون في ركب الأراجيح والاجتهاد في لفها دورة كاملة في الهواء لعدة مرات، وكم كنت أتعجب من فعلهم هذا!! وأصرخ مذعورًا يا إلهي كيف يجرؤ هذا المتهور على فعل هذه الحركات البهلوانية بهذا التوازن الإنسايبي؟!!
لكن الأمر لم يسلم من مخاطر جمة، حيث تعرض أحدهم ذات مرة إبان طفولتي الغضة للسقوط من فوق الأرجوحة العتيقة المصممة على شكل قارب؛ يتسع لحمل اثنين من الراكبين على متنها، ولولا عناية الله لهلك صاحبنا اليافع، لكن عين القدر كانت رفيقة به وبأهله في هذا اليوم المبارك، فأبت أن تكدر صفوهم وتنكد عليهم، وكانت آية ذلك أن سقط على كومة من السباخ البلدي، ولك أن تتخيل ما حاق بجلباب العيد فأخذ يسب ويلعن صاحب الكومة التي تسببت في تلطيخ جسده وثيابه بروث غبي في ركن قصي من جرن المضيفة البحرية، الذي كان يَشرُف كل عام باحتضان كرنفال العيد بما فيه من ألعاب وأراجيح وباعة ومراهنات بين الصبية و الأطفال، ولنا في هذا الجرن الواسع ملاعب شتى وصنوف من اللهو تند عن الحصر؛ فثمة مباراة لمحترفي قنص البلي الملون والطزاز الصيني المزركش وهناك تنافس بصور الكوتشينة الورقية المثبتة في كومة من الرماد حيث يتبارى الأطفال على حصدها من خلال رميها بقطعة من الخزف تسمى (المكشاح)، وثمة مناوشات بالشماريخ وتقاتل (بالبومب) ولفائف البارود بين الصبية والفتية، وما أدراك ما البومب؟!! حيث كانت لفافة الواحدة منها متناهية الصغر لكنها عظيمة الوقع على الكبار قبل الصغار؛ لما تبعثه من رعب في صدر من يُفجع بوقع فرقعتها؛ جراء انفجار بارودها وتناثر حصياتها ونفح دخانها، وقد كنت أعرف حق اليقين طفلاً اعتاد أن يتلذذ برمي البومب في طريق المارة على غرة من شرفة منزله القديم الذي كان يتوسط البلدة ويطل على أكبر شوارعها؛ مما كان يعرض راكبي الحمير وعربات الكارو من أهلنا الفلاحين القادمين من الغيطان والمزارع لشر مستطير ومخاطر جمة؛ جراء اضطراب الحمار ورفصه أو حمحمة الحصان وركضه!!!
وكلما تذكر هذا الكهل تلك الحماقات البريئة والمناوشات المريبة تعجب من نفسه غاية العجب، فاعتراه التأنيب والغضب لكنه سرعان ما يهدأ ليهدهد أنين الذكريات بحنين الرجولة ويكفكف دموع الشتات بماض الطفولة؛ فيصبر نفسه ويرثي عصره قائلاً في نفسه:
((ليتها دامت!!! )) .
المصادر:
١-مفكرة جدي الشيخ أحمد الشربيني رحمه الله
٢-رواية الأستاذ أحمد حافظ هلال
٣-رواية الحاج رمضان سالم الهجرسي.