قصة … عذراء الفتى العاشق (الجزء الثاني)
بلقيس البوسعيدية
شرد (هود) بنظرة إلى السماء وسكت برهة ثم قال بحزنٍ واضحٍ وهو يطفئ السيجارة في كعب حذائه:
“في إحدى السنوات اجتاح قريتنا الجفاف والتصحر، ذبلت الأزهار وتيبست الحشائش، ماتت الأشجار التي كانت مصدر غذائنا الوحيد، جفت الأرض سريعًا وأصبحت مأربَ صحراء قاحلة، كصحراء الربع الخالي تمامًا، انتشر الجوع والفقر، مات الكثير من الأطفال أثر الجوع، وأجهضت الحوامل أجنتهن، ثم بدأ سكان القرية في التناقض شيئا فشيئا.”
تنهد (هود) بأسى قبل أن يكمل قائلًا:
“وقتذاك لم يكن يسكن قريتنا سوانا نحن البشر وتلك الأشجار الكثيفة، لا حيوانات، ولا طيور تحلق في سمائنا، ولا مطر يهطل عدا في ليلة القربان، تهطل السماء بغزارة، تثمر الأشجار وتورق الأغصان وتزدهر الأرض، وتزداد فراشة.”
(جون) بحاجبين معقودين:
“تزداد فراشة!؟.”
“أجل، فراشة.”
” ليست مجرد فراشة يا (جون)، فكل فراشة هي فتاة عذراء لعائلة ما من قريتنا.”
عقد (جون) حاجبيه في اهتمام وقال:
” يا له من أمر عجيب، وكيف ذلك؟!.”
“في ليلة من الليالي القاحلة السوداء حلم الزعيم في منامه بالأشجار وهي تطلب منه أن يقوم بتقديم فتاة عذراء كقربان لها، فتاة عذراء مقابل أرض خصبة، لم يكن للزعيم أي خيار آخر، إما الموت أو الحياة مقابل حياة أخرى، قام بتقديم أول قربان للأشجار، كانت ابنته البكر (موضي) التي لم تكن تبلغ من العمر سوى خمسة عشر عامًا فقط، اختار ابنته؛ حتى يثبت صدقه وإخلاصه لأهل القرية، ليثبت لهم ولاءه، وليبث القوة في نفوسهم والشجاعة في قلوبهم؛ لكي يقتدوا بما قام به من تضحية من أجل أن يحيا الجميع بسلام، حتى تقوم كلُ عائلةٍ من بعده بتقديم ابنة عذراء من بناتهم كقربان للأشجار، في ليلة من كل عام يكون فيها وجه القمر كاملًا.”
قاطعه (جون) بنبرة حزينة:
“فتاة عذراء واحدة من كل عائلة!؟ “.
أومأ (هود) برأسه إيجابًا، قبل أن يكمل حديثه قائلًا بصوتٍ مختنق:
“كل فتاة تقدم كقربان للأشجار تصير فراشة جميلة زاهية الجناحين، وكل عائلة تعرف أية فراشة هي ابنتهم. “
قال (جون) بقلة صبر:
” وما علاقة الفتى العاشق بهذه القصة؟!”.
” كان لعائلة العم (خالد)، فتاة واحدة تدعى (ياسمين)، كانت حبيبة الفتى العاشق، تعلق قلبه بها منذ الصغر، كان صادقًا في كل أحاسيسه نحوها، وبدورها هي أحبته بجنون وظلت مخلصة له، كانا يتواعدان تحت تلك الشجرة التي تتدلى منها الجمجمة، حتى أنهما قد نقشا الحروف الأولى من اسميهما على جذع الشجرة، كانا يفكران في طريقة ما لإنقاذ حبهما، لقد اتفقا على الزواج سرًا حتى تنتهي مأساة (ياسمين) من كونها الفتاة العذراء الوحيدة في العائلة، ولكنهما تراجعا عن قرارهما، فلو تزوجا سرا لن يعرف أهل القرية ما إذا كانت (ياسمين) قد فقدت عذرتيها أم لا، كان أخرُ قرارٍ لهما هو بأن يقتحم (الفتى العاشق) منزل (ياسمين) قبل ليلة من اكتمال وجه القمر، ليقوم بعدها بخطفها من بين أحضان والديها وأمام أعين أهل القرية كلها، ولكن مع الأسف الشديد، لم يوفق في تنفيذ فكرة الاختطاف تلك، ففي تلك الليلة انتهت قصة عشقهما بموتهما معا.”
صمت (هود) قليلًا، عيناه احمرتا وأدمتا، أطلق تنهيدة مكسورة، ثم أكمل بنفس النبرة قائلًا:
“أطلق والد (ياسمين) الرصاص في صدر (الفتى العاشق) من مسافة قريبة، اخترقت الرصاصة جدار صدره ثم قلبه الممتلئ بالأحلام، والأمنيات الجميلة والحب، علق رجال القرية رأسه على تلك الشجرة؛ ليكون عبرة لفتيان القرية، فالعشق في قريتنا وقتذاك لم يكن مباحًا، إنما كان جريمةً بشعة يعاقب عليها بالموت.
حزنت (ياسمين) حزنًا عظيمًا على موت حبيبها حد أنك لا تفرق ما إذا كانت حية أم ميتة، فقدت رغبتها بالحياة بموت (الفتى العاشق)، فهو كان بالنسبة لها الضوء والهواء والنفس، كان بالنسبة لها كل الحياة.”
بقي (هود) صامتا لفترة، ثم قال:
“هل رأيت من قبل نجما مجنونا يهرب في السماء بسرعة؟.”
رد (جون) بثقة من يعرف الجواب:
“نعم، أليست النيازك نجوم مجنونة هاربة؟!”
ابتسم (هود) ابتسامة صفراء، فاسترسل:
“أجل، هروب في أفق الخوف.”
حرك (هود) عينيه نحو السماء، ثم قال بصوت حزين لفحت حرارته قلب (جون):
“في ليلة القربان، ليلة اكتمال القمر، صعدت (ياسمين) قمة جبل شامخ، وصرخت بكل ما أوتيت من وجع، دوى صوت صراخها حد أن اخترق عظام أهل القرية وهز أرجاءها، تجمع الناس وهم ينظرون إليها بهلع وهي تسقط كريشة خفيفة من قمة الجبل حتى اختفت فجأة بسرعة وميض النيازك في أثناء سقوطها، تبعثرت وسط دهشة الجميع في شكل شلالات ضوئية ونقاط ضوئية صغيرة، أصبحت سماء قريتنا منذ تلك الليلة مساحة بيضاء من بقايا أشلاء حكاية حزينة ومؤلمة.”
قال (هود) بعد صمت:
الغريب في الأمر أن السماء في تلك الليلة أمطرت، والأشجار تكاثفت وازدهرت، والنجوم اختفت ولم يبق في سمائنا شيء سوى وجه القمر الحزين، والفراشات ظلت تحلق من شجرة إلى أخرى حتى هذه اللحظة.”
صمت (هود) وبدوره صمت (جون) طويلا.
عقد (جون) حاجبيه باهتمام، كاسرًا حاجز الصمت، سائلًا بفضول طفل:
“هل تذكر كيف كانت تقام طقوس القربان؟!”.
“أجل ما زلت أذكرها ولن أنساها ما حييت.”
“في ليلة اكتمال وجه القمر يتم حفر حفرة عميقة مستطيلة الشكل وسط الأشجار الكثيفة وتحديدا تحت أكبر شجرة تعطي ثمرًا وظلًا، تقوم النساء بتغسيل الفتاة بمياه البحر لتطهيرها من ذنوبها، ثم إلباسها ثوبًا أبيضَ حريريًا ناعم، ويضعن مجموعة من ريش الطواويس الملون على شعرها، ثم يتم زفها في موكبٍ حافلٍ إلى الأشجار، هناك حيث يتم تحضير القربان، ثم يبدأ الرجال في دق الطبول دقات عنيفة تهز الكيان، وتضرم النار في الأخشاب، ثم تبدأ النساء في الصهيل في انسجام حاد رنان، تُتلى بعض الصلوات، ثم تدفن الفتاة العذراء قبل أن يرتفع صهيل النساء بصوت رفيع حاد، تطمر الحفرة بالتراب ويصب عليها الماء، وتغطى جيدا بالأغصان المقطوعة من الأشجار، ثم يعم الصمت أرجاء المكان، الصمت المدوي الذي يتبع سكون الطبول وتلاشي الصهلات.”
صمت (جون) في دهشة مما سمع، بينما (هود) سرح بأفكاره بعيدا لتسقط من عينيه دمعة أخذ يمسحها على عجل خوف من أن يلمحها (جون).
فجأة اقتربت منهما فراشة رقيقة ترفرف بجناحيها صانعةً موسيقى شجية اللحن، بدأ المطر ينهمر بشدة فأضاف صوت سقوطه بعدا آخر لموسيقى الفراشة، رفع (هود) يده أمام وجهه، فحطت الفراشة البديعة على إصبعه برقة وبخفة لا توصف، قام (هود) واقفًا وبدأ في الدوران حول نفسه، بدا وكأنه يراقص تلك الفراشة التي ظلت محافظة على اتزانها على إصبعه، كان منتشيًا جدًا بتلك الفراشة الجميلة الصغيرة التي يراقصها، استمر في الرقص بروحٍ طربه، تساقطت دموعه أثر امتلاء قلبه بالحب والفرح، ووسط دموعه وفرحه ورقصه، قاطعه (جون) سائلًا إياه بتلهف:
“ما الأمر يا (هود)، ما سر هذه الفراشة الجميلة التي حطت على إصبعك دون خَوف منك؟!”.
رد (هود)، قائلا بتفاخر:
“وهل بين الإخوة خوف يا (جون)؟!، ألا تدرك بأن الأخ هو أمان الأخت وسكينتها”؟
اغرورقت عينا (جون) بالعبرات:
“هل تقصد أن هذه الفراشة هي أختك (موضي)؟!”.
أومأ (هود) رأسه إيجابا.
التزم الصمت للحظة، ثم قال بتفاخر:
” نعم، إنها شقيقتي العذراء (موضي).”
توقف المطر ورفرفت الفراشة بجناحيها في الهواء، وحلقت مبتعدة في الأفق البعيد، بينما بقي (هود) يتابعها بعينيه الكمادتين.
لاحظ (جون) تبدل ملامح وجه (هود) للضيق والعبوس، فقال بنبرة هادئة محاولًا التخفيف من مرارة اللحظة:
“أتعلم يا (هود)، أجد أن قصة قريتكم هذه قصة عظيمة تستحق أن تروى للعالم أجمع بما فيها من معاناة وألم وظلم وقصة لعاشقين لم تكتمل كما رغبا بها، لو أن هناك من قرر كتابة قصة (ياسمين) حتمًا سيختار لها اسمًا يظل خالدًا في الذاكرة.”
تنهد (جون) بعمق، ثم أردف قائلا:
“قرية العذارى، أجده اسما لائقا لقصة كتلك راح ضحيتها فتيات عذراوات لم يرتكبن أي ذنب.”
ما رأيك أنت يا (هود)؟!”.
لم ينتظر الجواب وقال:
“لو كنت كاتبًا يا (هود)، لكتبت قصة الفتى العاشق وأسميتها (عذراء الفتى العاشق)، تكريمًا لروح الراحلة (ياسمين) التي تلبست روح لبؤة وقاتلت بشراسة من أجل حبيبها.”
ابتسم (هود) في وجه (جون) ابتسامة باهتة وهز رأسه بالإيجاب، ثم أطلق تنهيدةً عميقة وهو يرفع نظره نحو السماء البعيدة قائلا بصوتٍ هادئ:
“عذراء الفتى العاشق، عنوانٌ يستحق أن يظل خالدًا في الذاكرة إلى الأبد.”