2024
Adsense
قصص وروايات

قصة ….الأمل ضعيف

بلقيس البوسعيدية

في إحدى ليالي الشتاء الماضية حينما كنت أتمشى على شاطئ (مطرح)، استوقفني صوت امرأة تجلس على كرسي الرصيف الرخامي في أثناء مروري بها، امرأة لم تتجاوز الثلاثين من عمرها، تتحدث إلى أحدهم عبر هاتفها الخلوي، بدا قهرها جليا، كانت تقول بحرقةٍ ومرارة:
“لقد مللت من الحياة، مللت من نفسي ومن كل شيء، متى سأموت وأنتهي من عذابي هذا؟، متى سيتوقف العالم عن تعنيفي؟.”
انسلت من عينيها دمعة، فمسحتها على عجلٍ خوفًا من أن يلمحها أحد العابرين، ثم أردفت قائلة:
“ما الذي يجعلني أستمر في عيشِ حياة كحياتي؟، إلى متى سأصبر على صفعات الأيام ومرارتها وقساوة الحياة؟، كل شيءٍ يسير عكس ما أود، لولا وجود (علي) لعلقت رقبتي على إحدى المشانق وارتحت مني ومن الحياة، أو لرميت بنفسي الآن في بحر (مطرح)؛ لأنجو من عذابي، صدقيني لولا خوفي من الله لفعلتها دون أدنى تردد.”
صمتت وتنهدت، ثم قالت بصوتٍ مخنوق:
“أستغفر الله، أستغفرك يا رب، ولكني تعبت، أقسم بأني قد تعبت حقًا، ولا قدرة ليّ على تحمل المزيد من العناء والقهر والألم، أدعو الله كل يومٍ لأن يمنحني القدرة على التحمل والصبر؛ لأجل أن أستمر في هذه الحياة من أجل (علي) فقط، من أجل (علي)، أما أنا فلا فرق بيني وبين الجثث الراقدة في القبور، جسدي فوق الأرض وروحي وقلبي وأحلامي تحترق في جوفها.”

خانتها دموعها، فانهمرت على وجنتيها دونما رادع يحول من تدفقها، أغلقت الهاتف وأنا ما زلت أرقبها من مسافة ليست ببعيدة، نفضت الدموع عن عينيها، وأخذت تتأمل صورة أحدهم في شاشة هاتفها، أظن أنه (علي) الذي قصدته قبل بضع دقائق في حديثها، اقتربت منها بخطوات خفة، ثم مددت يدي لأسلم عليها:
“السلام عليكم.”
“وعليكم السلام.”
ردت التحية بابتسامةٍ ترحيبيةٍ وكأنها لم تكن تلك المرأة التي كادت تذوب ملامحها حزنًا على نفسها.
استأذنتها بالجلوس إلى جانبها، فسمحت لي بالجلوس بكل رحبٍ وسعة، وقد أعطاني ترحيبها ذاك الشجاعة الكافية لأن أبدأ معها حديثا يسد رمق فضولي، ويشبع جوع تساؤلاتي.
عرّفتها بنفسي قائلة بحماس وابتسامة:
“اسمي (رغد)، من (العامرات)، وأنا كاتبة مبتدئة وشغوفة في كتابة قصص الآخرين، وعلى وجه الخصوص قصص النساء العربيات”.
تنهدت بارتياح:
“اها، إذًا أنتِ ممن ينبشون في أسرار القلوب ويحيكون الحكايات بطريقةٍ تجعل القارئ ينبهر ويحب الحياة بمآسيها”.
ابتسمت، فاسترسلت:
“تقريبًا، يمكنك قول ذلك.”
قالت باقتضاب:
“وأنا (أم علي)، يبدو أنكِ متشوقة لمعرفة أسباب أوجاعي وسر بكائي”.

“نعم، ففي الحقيقة أجد أنكِ تملكين جوابا لسؤالي الذي طالما كنت أسأل نفسي إياه منذ أيام عديدة”….
هزت رأسها مستحثة إياي…
“ما الذي يجعل الإنسان يستمر في الحياة رغم انطفاء رغبته بها؟!، لماذا يستمر وهو يتمنى الموت؟، أنا أعتذر إن كان سؤالي قد بدا غريبًا عليكِ نوعًا ما، ولكنني من خلال المكالمة التي أجريتها أنتِ والحديث الذي سمعته منكِ بمحض الصدفة، وأصغيت إليه بكل ما أوتيت من فضول، أرى أنكِ تملكين الجواب الذي أرقني لوقتٍ طويل.”

أطلقت تنهيدة عميقة، ثم قالت بألم:
“آه يا عزيزتي (رغد)، يا لكِ من كاتبة محظوظة، فأنتِ الآن تجلسين بقرب امرأة مثخنة بالموت، تجرعت علقم الخسارة وشربت مرّ الحياة من كؤوس الصبر، امرأة ملتاعة وموجوعة، صدقيني ستخرجين بقصة عظيمة لن يدرك حجم مأساتها سواي، ولن يشعر بآلامها غيري، إن جراحنا ومشاعرنا تبقى لنا وحدنا فقط حتى وإن أخبرنا عنها ألف شخص”.
شردت قليلًا، ثم وضعت يدها اليمنى على قلبها وقالت وهي تضغط على صدرها:
“يبقى الشعور خالدًا هنا، وهنا يستمر الجرح ملتهبًا طوال الحياة وهذا قاسٍ، قاسٍ جدا على امرأة وحيدة مثلي”.
“نعم، أفهم ذلك.”
استرسلت، وكأن ما قلته قد شجعها على البوح أكثر:
“فعلا، لقد فقدت رغبتي بالحياة، فقدت رغبتي في كل شيءٍ منذ رحيل زوجي (أبو علي)، لقد كان رحيله موجعًا، موجعًا حد الجنون، ساءت حالتي وانقلبت حياتي رأسًا على عقب، لم يبقَ لي أحدٍ في هذه الحياة سوى (علي)، ولولا المنزل الذي خلفه لنا زوجي لكنا الآن ننام في العراء. لم تكتمل فرحتي بقدوم طفلي البكر، لقد كان صغيرًا جدًا، صغيرا لم يبصر من الحياة شيئا بعد، صغيرا على قساوتها وبشاعة وجهها، يستحق ابني حياة جميلة، ولكنها الحياة لم تحبه قط منذ صرخته الأولى، لم تمنحه الفرصة لاكتشاف دهشتها وجمالها. إنها الأقدار التي لا مفر منها يا عزيزتي رغد، إن ابني (علي) مصاب بمتلازمة داون، يقاسي قلب صغيري الوحدة كقلب أمه تمامًا، الوحدة متعبة جدًا لقلب إنسان بالغ، فكيف بقلب طفل صغير كقلب وحيدي (علي)؟!

صمتت قليلاً ثم قالت بخيبة:
“جواب سؤالكِ يا عزيزتي (رغد)، أننا نحن البشر حين نفقد رغبتنا تجاه الحياة نستمر في عيشها لأجل من نحبهم فقط، نملأ قلوبنا بالرحمة، النور، العطف، والأمل لأجل أن نحقق رغباتهم وأحلامهم لا أكثر من ذلك، نتشبث بهم ويتشبثون بنا، نصير مساحتهم الآمنة وقوتهم الوحيدة في الحياة، ويصيرون هم قوتنا أيضا بطريقة ما، نمتص أوجاعهم ونستمد الصبر والشجاعة من ضعفهم، نصارع لأجلهم الحياة بكل ما أوتينا من قوة وعزم، نستمر لأجل أن تبقَى قلوبهم قيد النبض والإحساس بها.

إنني أتنفس لكي أملأ رئتي صغيري بالحياة، وأتناول الطعام لأسد جوعه وأشبع رغباته، وأضحك ليفرح قلبه، وأقبل وجه الحياة البشع برضوخ تام ورضا وقناعة لتمنحه الحب والعطف؛ فيفرح قلبي، أنا وصغيري (علي) مرتبطان ببعضنا، قلب واحد وروح واحدة في جسدين منفصلين. حينما تموت أحلامنا ونفقد رغبتنا تجاه الحياة؛ فإننا نجاريها ونستمر في عيشها لأجل من نحبهم فقط، يجبرنا أحباؤنا على حب الحياة وتجبرنا الحياة على التخلى عن كل شيء من أجلهم، الحب وحده من يحركنا، يدفعنا ويثبتنا نحن (الإنسانيين).”

سألتها جادة:
“إذا، كيف لامرأة قوية مثلك أن ترغب بالموت؟”
شهقت بدهشة: “قوية؟!”

“نعم، أراكِ امرأة قوية لا سقف لها ولا حد، تملك قلبا رؤوما، وروحا شجاعة، امرأة لا تهزم ولا تخشى من الحياة سوى ما تتمناه، أقصد (الموت).”
ضحكت بضيق، ثم قالت بصوت بُحَ من الغصة:
“لا لا، لا تصدقين ما سمعته مني بخصوص رغبتي في الانتحار، فأنا لا أملك الجرأة للإقدام على خطوة كتلك، نحن نتمنى الموت ولكننا نخاف منه مع أنه قادم لا محاله، تجتاحني أفكار سوداوية كتلك في أشد لحظاتي ضعفا وضيقا؛ لذلك أنا أتفوه ببعض التفاهات أحيانا، أرغب بالبقاء حية ما شاء الله لي أن أفعل، تمسكت بالحياة من أجل صغيري، ومن المستحيل أن أرتكب ذنبًا كذاك.”

قلت جادة:
“لا تتفوهين بالتفاهات أرجوكِ، لا تتفوهين بأمور قد يخطفها القدر من فمكِ ليحققها من دون رغبة، فعليه منكِ بأن تتحقق.”
ابتسمت، أو ربما جمعت ما تبقى من ملامح ابتسامة قديمة وقالت:
“لا تخافي عليّ يا (رغد)، فمنذ وفاة زوجي وأنا أعيش الحياة باقتضاب، بكلمات معدودة وحروف قليلة، متثاقلة ومحسوبة.”
صمتت، وصمت بدوري طويلا.

ارتفع صوت هاتفها، نظرت إلى الشاشة ثم قامت من مكانها فزعة كمن تذكر شيئًا، استأذنتني بالذهاب للتسوق من سوق مطرح القديم، قالت: إنها تود أن تبتاع من رائحة الوطن (اللبان)؛ لتشم عبق الماضي وتنتشي بدفء الذكريات وحكايات الأجداد والجدات.
تبادلنا أرقام الهواتف، وودعتها بالأحضان وبقبلة أولى، ولا أدري إن كانت ستكون الأخيرة أيضا.
لم يمض على وداعنا سوى لحظات قليلة حتى صم آذاني صوت كبح فرامل السيارات بطريقة مفاجئة قبل أن يتناهى إلى سمعي صوت ارتطام مدو لجسمٍ ما على صلابة الأسفلت، علا ضجيج المارين، ازدحام، صراخ، أناس قد تجمعوا حول شيء ما، اقتربت أكثر بخطوات ثقيلة يكسوها الإضطراب، تسارعت أنفاسي، اختلست النظر من بين الجموع وإذا (بأم علي) قد سقطت مغشيا عليها وسط بحيرة من الدماء، صعقت ما أن رأيتها بحدقتي المتسعتين تلفظ أنفاسها بهدوء، مبقية عينيها على اتساعهما الذي بدا في تلك اللحظة أمرا جليلا، هرعت سيارة الإسعاف إلى المكان، أحسست بالموت ينساب بين ضلوعها، سالت دمعة من عيني، جمدت في مكاني من هول المنظر، فقدت الإحساس بكل ما دار حولي، لا أذكر كمْ من الوقت قد مضى حتى انتشلتها سيارة الإسعاف من وسط معمعة الموت تلك! كل ما أذكره هو المشهد المهيب للناس من حولي وهم يتناقصون ويرحلون متمتمين بغصة:
“الأمل ضعيف، الأمل ضعيف.”

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights