بساطة
محمد الزعابي
تعاني معظم شعوب العالم من التضخم، وهو ما ينغص الحياة في هذا الزمان، فغلاء المعيشة جعل الناس مكبلة بالديون والقليل منهم غير مدين لدى البنوك التجارية حتى صار الناس مجبرين على دفع الأقساط لشركات التمويل، وتفاقمت عليهم مبالغ الفواتير المتأخر سدادها بسبب عدم المقدرة لدفعها.
لقد تغير العالم بشكل جذري عما كان عليه في السابق، فجيل اليوم ليس كمثل الجيل الذي عاش فترة التسعينات والثمانينات؛ حيث كانت البيوت تكسوها البساطة والقناعة.
تلك المنازل الصغيرة، والتي سكنتها عوائل كثيرة مبنية على الترابط والتواصل الاجتماعي المتين بلا إنترنت ولا ألعاب إلكترونية، فقد كان جلوس الأسرة أمام جهاز تلفاز واحد يكفي احتياج عائلة بأكملها.
كان الأطفال يتحلقون حول لعبة (الكيرم) وال ( uno ) و(الشطرنج) و(الدمينو) وألعاب حركية أخرى، يسعد بها الجميع كثيرًا.
وتلك الألعاب ليست مثل ألعاب اليوم، فأطفالنا الآن يمتلكون أحدث أجهزة (الأيباد)، ورغم ذلك تجدهم يشتكون من الملل ويتذمرون، بل صارت هذه الألعاب تسلب عقولهم، وتضاعف من قيمة فواتير الكهرباء والهاتف.
ولا نبرئ أنفسنا نحن الكبار، فصرنا نصحو مدمنين على الدردشات التي صارت تمتص قوة أبصارنا، وأذهاننا بما تأتي لنا من مقاطع ومحتويات بعضها نافع وأغلبها سامج.
كل شيء صار بحوزتنا، ولكننا لا نشعر بالراحة، حين تزداد ضغوطاتنا الشهرية،
ويعود بنا الشوق لأيام جميلة تحز على قلوبنا الذكريات والحنين لها.
في السابق كانت سيارة واحدة تسد غرض المواصلات لرب الأسرة، أما في عهدنا هذا فأصبح البيت يمتلك خمس سيارات أو يزيد، وكأنه لا يملك شيئا، فكلما استهلكنا أكثر زادت قيمة المصاريف الإلزامية، وأصبح الغلاء ينهك كل الأسر بدون أي شفقة.
في تسعينات القرن الماضي، وربما يتذكر من واكب تلك الأيام، وشاهد ما اعتادت ربات المنازل أن تفعله حين كنا نجتمع تحت سقف واحد تجمعنا مائدة واحدة لم نشعر بقيمة الغلاء في الطعام، وكان الشبع والشكر لله في أفواه كل العائلة، بل كل شيء عندهم بمقدار. فإذا بقى من طعام الغداء تقوم الأمهات بحفظه حتى يكون طعام العشاء، عكس ما نراه الآن من بذخ وتبذير ورمي ما ليس له حاجة في القمامة، فالأكل لا يعني أن يأكل الإنسان حتى ينفجر، فقد قال رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام 🙁 مَا ملأَ آدمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطنٍ، بِحَسْبِ ابنِ آدمَ أُكُلاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فإِنْ كَانَ لا مَحالَةَ فَثلُثٌ لطَعَامِهِ، وثُلُثٌ لِشرابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ). سنن الترمذي (2380).
تلك الحياة البسيطة صنعت جماليات الحياة، وعرفنا فيها قيمة الإنسان ببساطته وعفويته، فالإنسان غير ملزم بلبس ما هو أكبر من طاقته المادية، ولا هو مُجبَر أن يكدس ملابسه في الخزانة بدون أن يرتديها أو يشتري أحذية باهظة الثمن، ويكدسها دون أن ينتعلها حتى تفسد بعد سنوات وتتقطع، وتكون نهايتها القمامة بلا أي استفادة، وهذا أمر واقع، ولا يخفى على أي واحد منا.
فهذه الأشياء تتسبب بانهيار عكسي، وتؤثر في حالتنا المادية، فالمال إن لم نحسن إدارته في شبابنا سيجعلنا نندب على ما فرطنا من سوء استخدام في المستقبل.
هناك بعض من الدول الفقيرة في العالم لا يوجد بها مثل ما عندنا من خيرات وفيرة، ولكن تجدهم متأقلمين مع بيئاتهم، فتراهم يستبدلون بالغاز الفحم الطبيعي؛ لإشعال موقد الطبخ، ويستغلون كل شيء نباتي ليسد حاجة بطونهم، ويسكنون البيوت الطينية بدلًا من الإسمنتية، وهم في قمة سعادتهم التي صنعوها بأنفسهم.
فلو جربنا أن نعيش يومًا بلا سيارة، ويوما بلا هاتف، ويوما آخر بلا إسراف في الطعام؛ سنجد الفرق، وسنلاحظ أننا وفرنا الكثير من المال الذي كنا نستهلكه ونبذره دون أن نشعر.
لو يعود بنا الزمان للخلف قليلًا عندما كنا لا نملك هواتف، عندما كنا نستخدم سيارة الأجرة لغرض المواصلات والتنقلات، كانت مصاريفنا التي نصرفها أقل مما نصرفه الآن.
ولم اقصد بكلامي بأن الإنسان غير محتاج أن يواكب العصر، ويلبس ويأكل، ولكنه يقيس على نفسه، ويأخذ ما يحتاجه فقط، ويدع الذي لا يلزم اقتناؤه.
إذا كنت اعتدت أن تشرب قهوتك بشكل شبه أسبوعي في أرقى المقاهي، فجرب أن تصنع القهوة بنفسك، واحتسِها وأنت جالس أمام البحر مستمتعا بأصوات النوارس، فهناك الكثير من البدائل التي تجعلنا نستمتع بحياتنا ولو بالقليل.
فلنجرب ممارسة حياة البساطة؛ حتى تكون جزءا من روتيننا المعتاد، ولنبتعد كل البعد عن التبذير؛ لنعيش حياة البسطاء.