سر الفرحة
بقلم – عبد الله بن حمدان الفارسي
ليلة شتاء ممطرة معتدلة البرودة، أعقَبَها صباح شبه مشمس، السماء ما زالت ملبدة بغيوم بيضاء كثيفة، ولكنها متفرقة نوعا ما، تجعل من أشعة الشمس تطل باستحياء، جدران منازل الحي مبللة من انهمار السيل عليها، ليكشف عن بعض ملامحها، ويظهر عيوب بعضها، كونتها العوامل المناخية، فانبعاث رائحة الطين والصخر وبقية المواد الممزوجة معهما تزكم الأنف، ولكنها روائح محببة، تضفي على المكان والزمان خصوصية فريدة، لا سيما أن تلك الروائح لا تنبعث إلا في أوقات كهذه، الزمان بعد الشروق بقليل، يوحي بيوم تحتويه حركة جنين في بطن أمه على وشك إطلاق صرخته الأولى المنتظَرة، المكان حي تطغى على ملامحه العتاقة والموروث الشعبي، المليء بأحداث مدونة على جدرانه، ذكريات منقوشة على طينه، ورسومات بعضها رغم بساطتها مفهومة، وبعضها عبارة عن رموز وشخوص تعني شيئا لشخص ما، بينما ذات الرموز تعدُّ لا شيء لآخر، ولكن تلك الجدران لا يختلف اثنان على نشأتها المعمارية وهندستها، بأنها من إبداعات السلف لتكون حاضرة وشاهدة على براعتهم، ومواقفهم المشرفة، فهناك أسوار شاهقة حين تجانبها تشعر بالقزامة معها، ولكنها تمدك بالاطمئنان والشموخ والعزة، صياح بعض الديكة يُسْمع بين فينة وأخرى من هنا وهناك، وأيضا تسمع بعض الأصوات المتفرقة من المنازل للمدقة في الهاون؛ لسحق البن لتحضير قهوة الصباح.
على غير العادة أجدني وأنا ذاهب لوجهتي المعتادة (العمل)، في هذا الوقت وحيدا بين الطرقات أزاحم نفسي، إلا من فرحة تعانق جوانحي، يسري دبيبها مع جريان دمي في الشرايين، وربما يعود خلو المارة أو قلتهم في الأزقة لهاجس انتاب بعضهم من زيادة هطول المطر في قادم الوقت، ولأول مرة ينتابني هذا الشعور المفرط بهذه الصورة، ومن فرط ما أشعر به يكاد قلبي يخرج من جوفي، وأتساءل مع نفسي يا ترى ما سر هذه السعادة التي تكسو فؤادي؟ وما سببها؟ وأجيبها (نفسي) لعل الأجواء المناخية الرائعة وما يرافقها من بهجة الزمان وبهاء المكان سبب لهذا الإحساس المشحون بمكونات هرمون الابتهاج.
وفي الطريق ما بين الأزقة المتفاوتة الاتساع، والمختلفة المسالك ما بين الاستقامة والانعطاف، وأنا متوجه لجهة عملي، وقبل ذلك يتوجب علي الوصول للساحة التجارية التي تضم بعض المتاجر، وبقالات بيع التجزئة، وبسطات متفرقة لبعض الباعة البسطاء، ومواقف للمركبات لأهل الأحياء المجاورة، نظرا لضيق الأزقة التي لا تمكن المركبات للعبور من خلالها، والوصول لأبواب المنازل، ولضيق مساحات الوقوف؛ يضطر بعض السكان إلى ركن مركباتهم في المواقف المخصصة لهذا الغرض، كما أن هذه الساحة تخدم بعض الأحياء الشعبية المتقاربة والقريبة منها، ومن ضمنها الحي الذي أسكن فيه.
وبما أنني لا أملك مركبة خاصة، كحال مَن هم مِن ذوي الدخل المحدود، أو ممن لا تسمح إمكانياتهم باقتناء مركبة، وذهابي للعمل يتطلب وسيلة نقل؛ فقد اعتدنا أنا ومن هم على شاكلة وضعي أن يكون الانتقال عن طريق حافلة تنتظرنا في تلك الساحة، قد تم استئجارها بالاشتراك مع من تكون وجهة عملهم على نفس الطريق ذهابا وإيابا.
وأنا في طريقي المعتاد، وكما ذكرت سابقا، ما زالت تعتري قلبي فرحة عارمة لم يعتدْ على وقعها كالذي يشعر به اليوم، وفجأة تذكرت أمرا ما، وما الأمر الذي يجعلني بهذا الابتهاج الداخلي، والسرور المنبعثة رائحته من أعماقي لتعم كل شيء يصادفني في طريقي؟ أياً كان مكوِّن ذلك الشيء وهيئته؛ فأنا أشعر به، وهو يشاركني فرحتي، ويرقص عوضاً عني؛ لأني -فعلا- لا أجيد الرقص والتمايل، إلا في ميادين فنوننا الحماسية، كالرزحة والهبوت والبرعة، والفنون البحرية وأخرى من الفنون الزاخرة بها بلدنا المعبرة عن الفخر والاعتزاز والرجولة، نعم، تذكرت وأنا أهُمُّ بالخروج من المنزل وكممارسة يومية وعادة مستحبة لقلبي، ألا وهي تقبيل يدي أمي ورأسها -أطال الله وبارك في عمرها- تذكرتُ دعواتها وتمنياتها الطيبة لي، وتعبيرها عن رضاها لي بعد الله، هنا توقفت عن السعي وسؤال النفس عن سر هذا الابتهاج والانشراح.
وعن إجابة الدعاء وقت نزول المطر، فقد وردت بعض الأحاديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي تحث على الدعاء وقت نزول المطر ومنها، ما جاء في حديث سهل بن سعد مرفوعاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(ثِنتانِ ما تُرَدّانِ: الدُّعاءُ عند النِّداءِ، وتحْتَ المَطَرِ) رواه الطبراني في المعجم الكبير.