خفايا الذاكرة (دروس في تحفيظ القران الكريم)
حميد أبو شفيق الكناني
كاتب إيراني
٢- المغامرة
ينبغي على الحافظة والحافظ امتلاك الشجاعة الكافية في الحضور والظهور؛ كالقراءة بصوت مسموع، وكذلك الرد على الأسئلة في كل المناسبات والمواقف دون خوف ولا تردد، حتى وإن أخطأ الكرة تلو الأخرى لأن الفشل طريق النجاح؛ وبذلك تنمو عنده ملكة التلاوة عن ظهر قلب.
نقتبس من معارف نهج البلاغة:
“إذا هبت أمراً فقع فيه فإن شدة توقيه أعظم مما تخاف منه”
فبعد مدة ليست بالمديدة سيكتشف الحافظ أن الأمر لا يستحق كل هذا الخوف والحذر والاحتياط؛ بل هي قصة التاريخ كله:
التاريخ يبدأ بمأساة وينتهي بمهزلة.
وبتعبير آخر:
التاريخ يبدأ بمأساة وينتهي بملهاة.
ومن لم يقرأ التاريخ محكوم عليه بإعادته.
وبناء على ذلك يجب أن يرسم الحافظ لذلك المخطط الممنهج ولا يكتفي ببرنامج التسميع، حتى يتحول هذا الأمر لديه إلى عادة يومية يتمكن إثرها من تحويل مقدار ما يحفظ إلى مسئلة بديهية يتفنن في إلقائها، وهذا النوع من السلوك هو صيانة للمحفوظات وحصانة لها، فلا يضمن الحافظ مقدار ما يحفظ حتى يكون قد بلغ الملكة وجرى سياق الآيات على لسانه عن طريق اللاوعي وبصورة تلقائية.
فيجد نفسه متمكن من التلاوة عن ظهر قلب بصورة لا شعورية و لا إرادية، وهذه هي مرحلة الانتقال من النمو إلى السمو في عالم حفظ القرآن الكريم.
ثم عليه أن يكون متفائلاً متفاعلاً متواصلاً في بلوغ هذه المرحلة من النضوج، وعليه أن يتوقع ذلك فكل متوقع آت فتوقع ما تتمنى، ثم بعدها يفعل الله ما يشاء ويحكم فيما يريد.
وعلى الحافظ أن يكون واقعياً ولا ينتظر المعجزات ولا يتحدث عن الخوارق، فالأمور في أغلب الأحيان تأخذ مجراها الطبيعي.
لا يسهر الليل إلا نائم العصر
وليس للشوق ذنب في الذي يجري.
٣- الفن وليد الوحدة
تلعب الخلوة تلعب دوراً كبيراً ومؤثراً في نشاط الحافظات والحافظين، حيث يجد الحافظ نفسه أمام هذا الكتاب المسطور بين الدفتين يتدبر سوره ويتعمق في آياته، وحيداً بعيداً عن ضوضاء الشوارع وغوغاء الأسواق وثرثرة العامة وتكرار المكررات، وكذلك الأمواج السلبية المزعجة والمحرجة من الأحاديث التي لا طائل منها ولا جدوى، إن في الخلوة انتعاش الذاكرة ونشاط البدن وطمأنينة النفس. {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)}- [سورة الرعد].
ويشترط مع الخلوة الرغبة الملحة والفراغ اللازم والمعرفة التامة والبكور والحرص والصبر.
نقتبس من أنوار نهج البلاغة:
قَدْ لَبِسَ لِلْحِكْمَةِ جُنَّتَهَا وَ أَخَذَهَا بِجَمِيعِ أَدَبِهَا مِنَ الْإِقْبَالِ عَلَيْهَا وَالْمَعْرِفَةِ بِهَا وَالتَّفَرُّغِ لَهَا فَهِيَ عِنْدَ نَفْسِهِ ضَالَّتُهُ الَّتِي يَطْلُبُهَا وَحَاجَتُهُ الَّتِي يَسْأَلُ عَنْهَا.
وورد في شرح نهج البلاغة:
وقيل لبزرجمهر: بم أدركت ما أدركت من العلم؟ قال ببكور كبكور الغراب وحرص كحرص الخنزير وصبر كصبر الحمار.
والبقية تأتي…