كُنْهُ المثقف
عبدالله بن حمدان الفارسي
في الحقيقة كنت أتجنب الحديث عمّا سوف أتطرق إليه في مقالي هذا، نظرًا لمواقف نقاشية عدة استحضرتني قبل كتابته (مقالي)؛ لأن الكثير من النقاط ستكون ذات إيماءة لتلك الحوارات، وتفاديًا من إثارة حفيظة بعضهم، والوقوف على جرح يكاد يبرأ، حاولت جاهدًا النأي بنفسي عن فتح هذه النافذة، ولكن الأمر الذي أشعل فتيلته لدي، وجعلني مصممًا على طرح رأيي من أجل المعالجة السطحية اليسيرة، في محاولة اجتهادية لعل وعسى من لديه الحصافة وسعة الصدر أن يستتب الوعي الثقافي عنده، وإزالة غشاوة التمييز العنصري من ذهنه، والتحزب المقيت، وأن لا يحكم بما تراه عينه فقط، ولاستقامة شوكة الميزان لديه، هناك العديد من المدارك والشواهد يتوجب عليه استعمالها، ففي يوم ليس ببعيد سمعت أحدهم موجهًا سؤاله، وتعجبه، واستنكاره لجليس بجانبه، وهو يقول له: ما كنت أحسبك بهذه المعرفة والثقافة والاطلاع، لأن هيئتك أو مكانتك الاجتماعية لا تدل على حصيلتك المعرفية، وما لمسته فيك الآن! يا من تدعي ما لا تملك، ولا تفقه ما تقول، ولا تعي ما تفعل؛ الثقافة لا تعني أنك لا تجد لقدمك موضعًا لتضعها عليه من جراء التكدس والكم الهائل من الكتب والمخطوطات التي تحظى بها، فيما يسمى صومعتك المعرفية، أو رصها في مكتبة مزخرفة الرفوف، الثقافة ليست مقصورة على حفظك لآيات مختارة من الذكر الحكيم؛ لخدمة أهدافك متى ما دعت الضرورة لإثبات حاجة في نفس يعقوب، ولا القيام بحشو خزينة ذاكرتك بشيء من أشعار شعراء المعلقات، ولا بحيازتك على مقدمة ابن خلدون، أو بعض المجلدات لتزيّن بها خلفية مكتبك الفاخر، الثقافة لا تحصرها في تعدد رحلات السفر والسياحة التي تقوم بها بين فينة وأخرى، ولا في التباهي أو التشدق بكلمات تم التقاطها من هنا أو هناك؛ لأجل الاستعراض بها أمام التجمهر، أو حفظك لمصطلحات مبتذلة من لغات أجنبية، الثقافة ليس لها صلة بمنصب وظيفي ساندتك الظروف باحتلاله، ومواجهتك لجهاز الحاسوب الذي تضعه أمامك، مع الجزم بعدم إلمامك بمهام لوحة المفاتيح الخاصة به كافة، ولا في إرث مالي تملكه تئن منه خزائن المصارف، الثقافة مع كل ما ذكر سابقًا لا ضير من تواجدها في حياة الإنسان؛ فتلك من كماليات الحياة المتاحة بطرق مباحة.
الثقافة في المقام الأول آداب فطرية ومكتسبة، لكنها تنمو بالمزيد من الارتشاف من ينابيع الحياة المعرفية المختلفة دون كلل وملل، وأخلاق قيّمة تنعكس على نمط أقوالك وأفعالك، وأن تكون أفكارك ذات أبعاد وآفاق تحمل في طياتها كل ذي نفع على من حولك قبل أن يكون عائده عليك، الثقافة ليست تسّيد وهيمنة على نقاش من وجهة نظرك يجب الظفر به مهما احتدم الوضع مع الآخرين، هي أيضا تكمن في التراجع والانسحاب متى ما ثبتت حجة الطرف الآخر بالأدلة والبراهين، وكذلك سلامة لمضمون الحوار ولشخصك عند الاستشعار بخواء وشغور عقلية المتحاور. أيضا الثقافة تكمن في التزام مبدأ الصمت عند خروج الحوار عن أُسسه ومبادئه وآدابه، ولا مانع في قول كلمة لا أعرف، فمن قالها فقد أفتى.
إن الامتداد المعرفي ليس له حدود، ولا تحده موانع من المواصلة، واحتواء المزيد والكسب من مناهله، ولكن ذلك الامتداد يجب ألا يكون على حساب اعتلاء أكتاف الآخر، أو التسلق على مكتسباته ومدخراته واغتصابها منه، نلاحظ أن بعضهم عند دخوله في نقاش يشمّر عن ساعديه، ويزأر كالأسد بملء فيه؛ استعدادًا لدخول معترك النقاش، والاستعراض بما هب ودب، وحصل ووصل من معلومات مختزنة في ذهنه، سواء أكانت تلك المعلومات لها صلة بموضوع النقاش أم لا، أهم ما في الأمر بسط المختزن على تلك المائدة والسلام، أيضًا استدعاء واستنفار قوى الطوارئ لديه كافة، وجلب طابور استعراضي لأفكاره، لا أول له ولا آخر، في محاولة لإبراز عضلاته الفكرية، وفي النهاية بعد استهلاك طاقته الفكرية وإفراغ خزانته، يلجأ لأساليب الاستفزاز، واستخدام راجمات الصواريخ البذيئة التي تستوطن بواطنه؛ مستخدمًا منصة الإطلاق والانطلاق بلسانه اللاذع، مع استحضار بقية قواته وعتاده؛ لتكون على أهبة الاستعداد لاستعمال ما هو محرّم وغيره من سلوكيات وألفاظ وحركات، ليس لشيء، وإنما فقط ليثبت أنه مثقف وذو اطلاع، ولو كلف ذلك “العصا لمن عصا”.
ليست بهذه الأنماط تورد الإبل يا من تدعي الثقافة، الثقافة لها أمكنتها ومكامنها، ولها العقول التي تحبذ استيطانها والنمو فيها، ثقافتك ليست بالضرورة أن تتمثل في عمامة، أو عباءة، أو ساعة يد ثمينة، أو قنينة عطر باهظة الثمن، أو لوحة فنية لبيكاسو يتم تعليقها في المكان الأبرز في المنزل أو المكتب، ولا في الاستماع لسيمفونية بتهوفن، أو موشحات زرياب، أو امتلاك سيارة فخمة، الثقافة احترام وذوق، تجعل منك شخصًا كامل الأناقة في الباطن، يستأنس الآخرون به في المظهر، في نقاوة مفرداتك عند التخاطب، والتحادث مع الآخر، في إثبات الحجة بالأدلة الدامغة، متبعًا أسلوب الهدوء والسكينة، والثقة بالنفس عند الطرح، والأمر المؤسف أن لدينا الكثير من الأمثلة الحيّة التي تتنامى بيننا ممن يتباهون بضحل معرفتهم، وكأنهم الأوحد والأمثل بين الناس، في المقابل توجد من الروائع ما تجمعنا الصدف الحميدة للالتقاء بهم، وبحصيلتهم المعرفية الراقية، لتدهشك وتبهرك وتقزّم مستواك المعرفي أمامهم، ولكن مع ذلك لا تشعر بأنهم يتباهون بكنوزهم الفكرية، يعتلون قمم الإدراك بتواضع جم، يحتضنون ويتبنون ذوي الاحتياج المعرفي دون أن يشعروهم بمنة الفضل عليهم، ولا خدش بساطة معرفتهم.
إلى من يستشعر وجوده بين الأسطر، ويلتمس شيئا فيها رأفة بنفسك؛ فإن للغرور مقابر ومزابل تاريخية غير قابلة للاندثار، ليس عيبًا الرجوع للخلف قليلًا؛ لاستيضاح الطريق الأمامي، ومراجعة الذات ومحاسبتها، والتهيؤ للانطلاق مرة أخرى. أيضًا وللأمانة الأدبية والأخلاقية الشيء بالشيء يُذكر، بدأت فئة المطبلين تتنامى؛ بحيث يصل الأمر بهم إلى رفع من يستحق الهبوط، وإنزال من يستحق الصعود، ليس للأفضل مكانة بينهم إن لم يكن من شيعتهم، ميزان التقييم به اختلال وعدم اتزان، يجب على كلٍ منا إعادة النظر في تقييم ذاته، قبل التطرق إلى البحث عن مساوئ الآخرين ومثالبهم، وتقديس من هم دون الاستحقاق، قد لا نستطيع إصلاح كل شيء، ولكن بمقدورنا أن نكون نقطة البداية للإصلاح، وما تكون البداية إلا بأنفسنا.