ثرثرة نساء يعشقن الحياة
سميحة الحوسنية
كان فجرًا شتويًا قارسا تجوب نسماته الباردة الأزقة وسكيك الحارة الضيقة التي تصحو على صوت المآذن وصياح الديكة المبحوحة من البرد.
نسمات باردة عانقت لحظات الآذان، وطهرها تخللتها قطرات مطر تساقطت من غيمة ناعسة كانت تغتسل للوضوء، فكانت تسابقها خطوات المصلين، وهي تبصم الأرض في طريقها للمسجد.
يوم جديد مفعم بالحياة.. فكان الفجر وصوت المآذن وخرير الماء الذي ينساب بين يدي المتوضئين للصلاة وبكاء بعض الأطفال خلف بعض النوافذ ممن شعروا بالجوع أو المرض.
نعست القناديل المعلقة على واجهة المنازل الطينية وجدرانها، وتلك البيوت المبنية من سعف النخيل، وبعض الخيام المتناثرة في القرية بعد سهر ليلة طويلة كانت تتسامر مع الظلام وأصوات القطط في الممرات.. فما أجمل صوت الحاج (سيف الضرير) بعمامته البيضاء! كأنها ديسق من نور، وهو يردد الأذان في طريقه إلى المسجد، وقد تمسك بالحبل الممدود له من بيته إلى باب المسجد؛ لكي لا يضل الطريق، وتلك بادرة قام بها شباب الحارة تكريمًا للحاج سيف الذي يحرص على أن يكون أول المصلين، بينما تحمل الحاجة سالمة (سراج أبو سحة)؛ لينير عتمة الطريق من بيتها الذي يقع في آخر الحارة لتوصل ولدها الذي يبلغ السادسة من عمره للمسجد، فقد كان أبوه – رحمه الله – حريصًا على إقامة الصلوات في جماعة.. وهكذا ربت تلك الأم الفاضلة ابنها خالدا.
وهناك أمام شجرة (الرولة) تقف بانتظاره بمسباحها الأخضر، فهي الذاكرة الشاكرة؛ لتصطحبه معها إلى المنزل في طريق العودة.
كان كل شيء يبدو صامتًا إلا ذاك الضجيج الذي تحدثه أقدام المارة، الأشجار بدأت ترتجف من شدة البرد.. وبدأ سراج الحاجة سالمة يداعب أجفانه النوم؛ ليستسلم وينطفئ بعد تلك المسافة وفي أثناء المشي كثيرًا ما كانت تحدث خالدا عن أبيه وسبطه ومكانته الرفيعة في الحارة، فهو من ذوي المشورة، ويتمتع بحنكة وخلق ودين.. لكي لا يغلبه النعاس، وقد ارتدى الكوت الصوفي ويداه تعانقان بعضا؛ ليشعر ببعض الدفء في أثناء سيره بالدرب..
تبدأ الحاجة سالمة بعد وصولها للبيت بأعمالها عندما تفرغ من العبادة؛ حيث تذهب إلى نخل الشيبة (حميد الحظاف)؛ لجلب الماء من الطوي وبعض الحطب برفقة (صبيحة وعامرة وزوينة وجوخة)، نساء الحارة، فما أجمل صباحاتهن المفعمة بالنشاط والحيوية! الطريق إلى المزرعة متعب، فكثيرا ما كانت الكلاب تراوغهن، وقد حملت جوخة (المجز) تهدد به الكلاب بحركات تجعلها تتراجع إلى الوراء، وتفر هاربة منها؛ ليكملن الطريق بسوالف وأحاديث مضحكة تتخللها أحلام زوينة بالزواج برجل غني يحفر لها الطوي في البيت بدل تلك المسافة والكثير من الأمنيات التي يثرثرن بها نساء يعشقن الحياة برغم المشقة كثيرًا ما كانت سالمة تستغفر لأبي خالد الذي التهمه مرض السل لتشاطرها الحزن الخالة صبيحة، فتتذكر زوجها الذي ابتلعه البحر في قصة محامل الحزن التي لم تعد على السيف الملتهب؛ فاغرورقت عيناها بالدموع لتواسيهما الجارات ذكرن الله، الله يرحمهما ويغفر لهما، ويواصلن المشي؛ حيث يلتقين ببعض النساء في الطريق، فها هي (روية المزينة) قد وضعت الكحل في عينيها الجميلتين، وبللت المسواك بريقها؛ لتخضب شفتيها الغليظتين باللون البني والبرتقالي الجذاب، وقد حملت بعض الأعواد التي ربطتها في طرف الليسو؛ لتوزعها على النساء مع بعض النصائح لهن؛ لتكون بشرتهن جميلة، كوضع المحلب، والصندل، وسحة الرأس للعرائس؛ لتكون روائحهن خنينة؛ فهي من تقوم بتجهيز الفتيات المقبلات على الزواج ومزينة النساء في الحارة لشغفها في التجميل..
في ذاك الطريق يمر (حسن) كل صباح؛ ليتفقد مزرعة والده؛ حيث يعمل في دولة قطر، والذي فتن فيه الفتيات؛ حيث كان يبدو وسيمًا جذابًا، ولكنه خجول جدًا، فكثيرا ما كانت (روية) تطلق سهام نظراتها إليه؛ لعله يعجب بها، ويأتي لخطبتها؛ حيث كانت تحضر معها بعض (القروص)الحارة المغمسة بالعسل؛ لتقدمها لأمه (شيخة) هناك عند الطوي، فكانت النساء يفهمن مغزاها؛ فترتسم الابتسامة على وجوههن، لتقول لها جوخة:( يا رب، يكون من نصيبك ويشلك معه تشوفي قطر).
عندما تتمتلئ الهاندوة والجحال بالماء يقمن بحزم بعض الحطب للطبخ أيضًا، ويعُدن في ذات الطريق إلى الحارة في لوحة جميلة للمرأة الريفية؛ حيث يضعن الهاندوة على الرأس وربطة الحطب تحت إبطهن؛ فيصغي الطريق؛ ويستمتع بثرثرتهن اليومية يرافقهن الكثير من الأحاديث الماتعة في تلك الساعات التي قضينها في أحضان الطبيعة، وعند وصولهن للبيوت يبدأن بأعمال المنزل؛ فتدب الحياة في جسد أيامهن، وتبدأ حكايات جديدة خلف تلك الأبواب..
ذات مساء عندما كانت النجوم تغازل بعض الأنوار المنبعثة من قناديل القمر، وقد افترش الجميع طول الساحل ببعض الحصران والفراش، وتحت السماء كانت تتابع الفتيات الصغيرات تلك اللوحة المضيئة وجمال الكواكب في عتمة المساء التي تحتضن أضواءه الملتهبة بينما كانت (عامرة) تفكر في ابنتها التي أصيبت بالحصبة؛ فينتابها شعور بالحزن وقلبها يرتجف من الخوف، فالصباح موعدها لتذهب بها إلى العاصمة بمستشفى (طومس وخاتون)، وقد جهزت صرة ملابسها للذهاب بابنتها؛ لتلقي العلاج برفقة العم (سالم) وجارتها (شريفة)، فكان الصباح والوداع الأخير ذهبت عامرة لتوقظ ابنتها، فوجدتها قد غادرت روحها قبل بدء الرحلة للعلاج؛ فجاشت القلوب بالبكاء؛ فكان الوجع والعزاء.
في بيت العم سعيد كانت جوخة تستقبل النساء في كل مساء لمشاهدة التلفاز الذي اشتراه العم سعيد من دولة خليجية يعمل بها كان بمثابة (سينما مصغرة) بشاشته الباهتة بالأبيض والأسود الذي يتم تعبئته بطاريته بين الفينة والأخرى، وقد أعدت الشاي والقهوة، وقد حضرت للمشاهدة نساء الحارة في تجمع جميل تتعالى فيه الضحكات والأحاديث تارة يسود الصمت عند بعض اللقطات المشوقة، وتارة أخرى تمر زوبعة الثرثرة التي توقظ بعض الأعين التي داعبها النوم خلال تلك السهرة..
النساء حياة… وصباحًا ومساءً يزهر بالجمال… كثيرا ما نشتاق لتلك الثرثرة العفوية والروح التى تنبض في ضحكاتها، بعضها غادرنا وبعضها الآخر احتضنت ثرثرة الطباعة الصامتة على شاشة الأجهزة، فكان الصمت والاشتياق لتلك اللحظات التي لا توجد إلا في ذاكرتنا.