أرض وهبتها نفسي فاحتوتني
حمد بن سعود الرمضاني
مع اقتراب رياح فصل الصيف، وبداية موسم إنبات النخيل، واستعداد المزارعين بتهيئة أنفسهم ومزارعهم لموسم الزراعة الصيفية، أيقظ علي جده كعادته كل صباح، لتناول القهوة والجلوس معه، والاستمتاع لسماع بعض القصص الجميلة التي يرويها له عن حياته وذكرياته القديمة في واحات المزارع وساحات الحقول، تناول علي دلة القهوة من موقد الجمر الذي أمامه، وأخذ يسكبها في فنجان اِلتقطه من بين الفناجين الراكدة في قاع سحلة الماء. بينما كان الجد يمتع ناظريه بمراقبة انسياب جريانها، ولمعان لونها الذهبي الآسر، وصفاء جمالها الباهر، كشلالٍ صغير منحدر من عليائه، محدثًا صوتَ رقرقةٍ تلامس القلوب مع هدوء إشراقة خيوط شمس أول الصباح، وانبعاث روائح عطر الأزهار، تناول الجد فنجان القهوة بيمينه، بعد أن أخذ بضع تمرات يستقوي بها في يومه الطويل، ملك عبير رائحة القهوة البرازيلية أرجاء المكان، وبارتشاف فنجان منها، المطعَّم بذائقة الهيل، أيقظت إحساسه بالنشاط والحيوية إعلانًا للبدء بيوم جديد مفعم بالأمل والعمل، ثم هز فنجانه بحركة خفيفة إيذانًا باكتفائه، أتبعه بشرب كأس من ماء جحلة الفخار المعلقة على جذع نخلة بجانبهم كعادة أهل القرية، طلب من علي أن يأخذ بيده إلى المزارع القديمة التي كان يعمل فيها، يساعده علي بالنهوض على قدميه التي بدأت بالتثاقل وقلة الحركة مع ارتعاش بسيط على يديه، أخذ الجد عكازه ليسانده في طريق المسير إلى المزرعة، يخترق في مشيته بين الحقول بخطواتٍ قصيرةٍ بطيئة، يدفع نفسه للوصول إلى مبتغاه، تشدّه جذوة الشوق والحنين إلى مكان صباه، المكان الذي يجمع كنوزًا من ذكريات حياته، ومن خلال هذه الطرق كان يأخذ حماره محملًا بخيرات حصاد مما ينتجه الحقل، أو ما يحمله من أسمدةٍ وبذورٍ؛ لإصلاح وتحسين الإنتاج.
وصلا إلى الحقل، يرى من حوله، وفيه من الحسرة والألم ما يعتصر قلبه، أرضًا خاوية جرداء، لا يغطيها شجر، وقد نضب عنها الماء والسقي والمطر، تركت لتصارع مصيرها كغيرها من المزارع المهملة، بعد أن كبر رعاتها ومتعهدوها بالرعاية والفلاحة والسقي، دمعت عيناه، واستنشق نفسًا طويلًا يجدد به ذكرى روحه التي ارتوت من خلال سنين العمر الطويلة في المحافظة على هذه الأرض الخيرة المعطاءة، ولكن الأيام والسنين أحنتْ ظهره، وأخذت كلّ قوته وشبابه، واعتلت جسده الناحل لتتسرب إلى أطراف قدميه ويديه، جلس على تربتها التي لا تزال تتذكره، تحن إلى لمسات أصابعه ويديه التي تخشنت إلى زياراته المتكررة كل صباح ومساء، بدأ الجد بالحديث وعلي ينصت له بكل أدب واحترام، كانت هذه المزرعة ومن أمثالها من المزارع المهجورة، هي زادنا اليومي ومخزون حياتنا من الغذاء الذي لا ينضب، نعتمد عليها في الشدة والرخاء، وما زاد يباع في الأسواق، كنا نحصد الأنواع المختلفة من الخضار والفواكه، حسب اختلاف المواسم، فالمياه في الأفلاج والآبار وفيرة، تنساب رقراقةً نظيفةً كندى الصباح يعكس أشعة الشمس، ويروي الأرواح المتعبة والمتعطشة للمساته الحريرية الناعمة، وصوتها الهادي يحرك القلوب والألباب، يخترق جذور النبات، ويروي عروق العباد التواقة لعطاياه، لتسري في جنباتها الحركة والحياة. الحيوانات من الماعز والأبقار تسرح وتمرح، آخذة نصيبها بما تجود به الأرض، من أعشاب وثمار وبقايا الأشجار، والطيور تحلق بين جنبات اخضرار البساتين النضرة والثمار الوارفة النضجة، والنحل يلثم الزهور متمتعًا بسحب رحيقه، ليقدمه لنا شرابًا وعسلًا مصفى فيه البركة والشفاء، في الناحية الأخرى من المزرعة ترى أطلال ركام من الطوب بجانب بئر مهجورة، وخندقًا ينحدر من أمام البئر إلى الناحية الأخرى من المزرعة لمسافة أكثر من مائة متر تقريبًا، وحوض جاف تكسرت جوانبه بعدما أكل منه الزمن وشرب، وطحنته عوامل التعرية ورياح السنين والأيام فأهلكته، إنها بئر المزرعة وساقيتها المطمورة تحت الحجارة والطين.
كانت مصدر الري والغيث الذي يروي ظمأ الإنسان والنبات، ومبعث الحياة والأمن والاطمئنان، أصوات (المنجور) أو (الزيجرة) له وقعه على الآذان، ومنظر الثور وهو يجر خلفه الدلو المصنوع من جلد الحيوان يغترف مياه البئر ليرفعه إلى السطح، ثم يجمع في حوض خاص؛ ليوزع بعدها في الساقية المعدة لتوزيع المياه على جلب الأشجار والنخيل المقسم على أشكال مربعة؛ لتحتفظ كل جلبة بالمياه، وتحجزها من التسرب إلى الجلب الأخرى.
يا بني كانت حياتنا مليئة بالجد والمثابرة وحب العمل، نأكل من بركة مزارعنا بما تجود به الأرض من نفائس الثمار، وتجلب علينا من رزق طيب حلال، فاحرص يا بني على التمسك بقيم وحِرف أجدادك الأوائل، لتأكل من عرق جبينك، وتحيي ما عصفت به الأيام والسنون من أرض وشجر وماء. ثم روى له حديث مسلم في صحيحه بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه -قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يغرس مسلم غرساً، ولا يزرع زرعاً، فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا شيء إلا كان له صدقة”.
صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.