سيارة أجرة
ابتسام سالم المزيدي
في صباح أحد أيام صيف مسقط الساخنة، وقبل أن تعتلي الشمس موقعاً في كبد السماء في النصف الأول من دورتها اليومية، وقف عبد العزيز مع زمرة الواقفين على رصيف الشارع، علّهُ ينجح في استعطاف أحد سائقي سيارات الأجرة ليطوف به نحو مقر عمله، ولولا اضطراره لمَا حمل نفسه على الوقوف تحت وطأة شمس الصيف، ولمَا انتظر كل هذا الوقت يمسح عرق جبينه في انتظار من يشفق على حاله.
كان يستطلع ساعة معصمه بين فترة وأخرى، ويتأفف كلما وجد عقاربها تتسارع وكأنها في سباق، وكم من سيارة أجرة عبَرت، وهزّت ريحها ثيابه دون أن تعيره مقعداً ولا حتى أملاً في أن تكدسه مع من حُشروا فيها.
تذكّر سيارته، ومصيرها بعد الحادث الأليم الذي راحت ضحيته، وقد كان عزاؤه فيها نجاة ابن خالته (محمود) الذي كان آخر من أمسك بمقودها، وسار بها نحو الهلاك، وها هو الآن يدفع ثمن طيشه وعبثه بمفاتيح الزمن بأن يرقد في المستشفى مكسور الجناح إلى أن يتماثل للشفاء، قد يعود بعده للحياة وجراح الذكرى خيطت بعناية في صحراء جسده.
امتزجت إحدى قطرات عرقه المالحة بماء عينه وهو في عمق تفكيره، فأغمضها وراح يتمتم غاضباً، في الوقت الذي توقفت أمامه سيارة بلونيها (الأبيض والبرتقالي)، وفي قمتها تاج بلاستيكي يؤكد أنها (سيارة أجرة)، ولكن لِلحظات أخذ عبد العزيز يفرك عينيه متسائلاً إن كانت حقاً سيارة أجرة، أم أن الصداع الذي طوّق رأسه جعل عينيه تهذي بصورة ما يتمنى رؤيته؟
حشر نفسه مع من تكدست أجسادهم في قلب السيارة، ولأنه على عَجل فضّل أن يزاحمهم أمام هواء بارد عوضاً عن مزاحمة غيرهم تحت وطأة الشمس الحارقة.
بعد دقائق من ركوبه، اكتشف أنه خامس من حشر نفسه في تلك السيارة، كان هناك في المقعد أمامه رجل كهل راح يثرثر بغزارة، ويحكي للسائق الأربيعيني شيئاً مما سقاه الزمن، وهنا بالقرب منه شابّين في مقتبل العمر يتحدثان بصوت خافت لا يكاد يسمعه عبد العزيز بسبب الضجة العارمة التي سبّبها ذلك الشيخ.
حاول عبد العزيز أن يشغل نفسه عن أحاديثهم بشتى الطرق ولكنه وجد نفسه يخوض معهم أحاديثاً شيّقة، منها المبكية المضحكة في آنٍ واحد، جعلته ينسى أن صداعاً كان يطوّق رأسه، وأنه تأخر عن المكتب بنصف ساعة وأكثر.
كان بطل معظم القصص التي زحفت إلى أذنَيْ عبد العزيز هو ذلك العجوز الهرِم الذي ما استطاع عبد العزيز التعرف على ملامحه بشكل جيد، ولكنه قَطعاً تعرف على ملامح صوته الفتيّ في حدّته، الهرِم في بحّته،
كان العجوز قاصداً أحد المستشفيات الحكومية في مراجعته الثامنة لموعد ما، أشفق على حاله المريضة، كان يعاني من خلل في ركبتيه، مما دفعه لمراجعة طبيب في مستشفىً حكومي تفنن في تمديد مواعيد شتّى، ولشدة حرصه قرر المواصلة مع سير تلك المواعيد، ولكنه ما وجد إلا اعوجاجاً وعرجاً في ازديادٍ مع تزايد مواعيده دون أن يُعطى سبباً لآلامه ولا دواءً يغنيه عن زيارات موجعة إلى طبيب لا مبالٍ.
كان العجوز يكرر عبارة: (لا حول ولا قوة إلا بالله) بين فقرة وأخرى، ثم يقهقه حين يتذكر قصة حدثت له مع أحد الأطباء الذي دخل عليه في غضب، وقصة أخرى مع ممرضة أبتْ أن تعطيه حقنة، وقهقةً أكثر حين ذكر قصته حين أخطأ الطريق يوماً في ممرات المستشفى باحثاً عن ما يسمى الصيدلية.
وكان السائق متفاعلاً معه هو الآخر، وكان يروي قصصاً مماثلة تبعثرت حلقاتها بسبب مقاطعة ذلك الشيخ الثرثار، كان يحاول السائق أن يعرض قصة حدثت مع أحد أبناء أعمامه، وكان رجلاً بقواه ولكن بسبب صداع جعله طريح الفراش منذ عامين وذلك بسبب إهمال بعض الأطباء في التعجيل في تشخيص المرض وتماديهم في تمديد مواعيد لا طائل لها، مما اضطره للسفر في رحلة علاجية إلى الخارج.
قاطعه الشاب في الخلف وذكر قصة مشابهة لشاب في عمره ولكنه استدرك الأمر وقطع حبل المواعيد المتمادي في طوله، بزيارته مستشفىً خاصاً ليدفع ثمن صحته فيكسبها لا أن يكسرها مع مرافقة مواعيد بلا أسباب مقنعة.
ضحك العجوز الثرثار من أمامه وعلق ضاحكاً: (كلهم متشابهون، هؤلاء يأخذون من صحتك لتموت، وهؤلاء يسلبون مالك لتموت أيضاً).
ضحك الرجل الممسك بالمقود بشدة، صاحَب ضحكتة كحّة متقطعة، ثم واصل الثرثار حديثه الباصق ليكمل مغامراته الممتعة مع هذا وذاك.
ابتسم عبدالعزيز وهو يستمع لأحاديث العجوز، ثم أخذ يتفاعل معه شيئاً فشيئاً إلى أن وجد لسانه يقطع ثرثرة العجوز ذاتها، وتمازجت أحاديثهم بين ضاحكٍ وساخطٍ ومُعارض، وكان العجوز هو المسيطر رغماً عن الجميع، وإن كان حديثه متعرٍّ من الصحة إلا أن الجميع كانوا يعودون بأحاديثهم خائبين، غير قادرين على مجاراة حدّة صوته وعلوّه.
كان الشابّان يقصدان إحدى الشركات في العاصمة، حاملين شهاداتهما وأوراقهما آملان الحصول على مقاعد شاغرة فيها، وكانا قد قصدا قبلها شركات عدّة أعرجت بهما كما جاءا إليها، وقد بانت ملامح التفاؤل في عينيهما للحصول على ما يرميان إليه هذه المرة.
كان الشاب الذي يلامس جسده جسد عبد العزيز أكبر إخوته السبعة، كان يحاول أن يبدو عادياً حين تحدث عن والده الذي تقاعد من العمل قبل أشهر بسبب مرضه، وعن صعوبة توفير حياة ميسورة لتسعة أشخاص براتب لا يتعدى مئتي ريال، ثم تنفس بعمق وكأنه يحاول إخفاء غصّة في داخله حين قال أنه متفائل بقبول إحدى الشركات له في القريب العاجل، وعلل ذلك بسبب مستواه الجيد جداً في شهادته الجامعية.
ولم يكن رفيقه أحسن حظاً منه، فهو الابن الوحيد لأبويه بعد ستّ بنات وجميع أهله عقدوا آمالهم عليه وقد ألحّوا عليه ليعقد قرانه منذ أكثر من عامين، مما حمله على التعجيل في دراسته من أجل الوظيفة التي يحاول الظفر بها في أقرب فرصة، كان يحكي قصته ويضحك بين جُملها، بسبب تمتمات الرجل العجوز وتعليقاته الذي لم يرضَ الرضوخ للصمت دقيقة واحدة.
ثم تشارك الجميع في أحاديث متفرقة عن موسم جني التمور، إلى مواضيع عن الاستعداد لرمضان، والمدارس، ثم عن المعلمين، وأمور متشعبة في الطلاق والزواج، ومن ثَمّ تطرّق حديثهم إلى الزواج الجماعي في بعض المناطق، ومنها غلاء المهور إلى ارتفاع الأسعار إلى حرّ الصيف.
وكلها كانت تبدأ من فَم ذلك الثرثار المضحك، ليسانده الجميع ببعض جُمل علّها تمنح لسانه راحة لثوانٍ، فتتمازج الضحكات وتختلط في أصدائها، في الوقت الذي تسلك فيه سيارة الأجرة الشارع العام نحو بصيص أمل قد يمنح الراكبين إكسير حياة جديدة.