صراع مع الزمن .. قصة قصيرة (الجزء الثاني والأخير )
سليمان بن حمد العامري
بينما كان تائهًا بين شتات أفكاره، شعر بالألم يعتصر رأسه، لدرجة أنه لم يتمكن من مواصلة الجلوس، فقام يصرخ بألم ينادي أمه، هرعت والدته إلى غرفته وهي قلقة، قائلة بحنان: ما بك يا حبيبي؟ أمسك برأسه وأخذ يتنفس بصعوبة من شدة الألم.
في تلك اللحظة، دخل والده إلى الغرفة ببطء، ويبدو عليه التذمر، وقال بصوت عالٍ: ما به هذا المجنون يصرخ بهذا الشكل؟ وعندما اقترب منه ورأى حالته، قالت له والدته بانفعال: ألا ترى حالته؟ إنه يمسك رأسه ويتألم بشدة! رد عليها والده ببرود: لا شيء به، هذا كله بسبب جلوسه الطويل أمام الكمبيوتر، لقد نبهته كثيرًا!
كانت هذه الكلمات قاسية على محمد، فقد كان يعلم أن والده لا يريد منه متابعة دراسته الجامعية، بل يريد أن يتوقف ويعمل ليساعد العائلة ماليًا، لم يكن محمد ضد مساعدة أسرته، ولكنه كان يرغب في تحقيق حلمه بأن يصبح مهندسًا، ويعلم أنه إذا ترك الدراسة الآن، فقد لا يعود إليها أبدًا.
ردت عليه والدته بحزم: لابد أن نأخذه إلى المستشفى فورًا، لا يمكننا تجاهل هذا الألم، فأجابها بصوت مليء باللامبالاة: لا داعي للدراما، دعيه يتحمل، فهو رجل.
لكن والدته لم تستسلم، وقفت إلى جانب محمد وأصرت على ضرورة الذهاب إلى المستشفى بعد محاولات عدة، وافق الأب، وذهبوا به إلى الطبيب، الذي أكد أن محمد بحاجة إلى الراحة بسبب الإرهاق الشديد.
جعلت هذه الحادثة محمد يدرك أن تحقيق حلمه قد يكون معركة صعبة، ولكنه كان لديه إيمان داخلي بأنه سيكمل طريقه مهما كانت التحديات.
بعد سلسلة من الفحوصات، لم تستطع والدة محمد تحمل القلق، فذهبت إلى الطبيب وسألته بصوت مرتعش: دكتور، هل هناك شيء خطير بشأن ابني؟ لكن الطبيب لم يُجبها مباشرة، بل طلب منها بهدوء أن تستدعي زوجها، شعرت بالخوف يتصاعد في قلبها، وخرجت مسرعة تبحث عن زوجها، الذي كان يجلس بلا مبالاة تامة، ساق فوق ساق، وكأنه غير مهتم بما يجري.
قالت له: الطبيب يحتاجك الآن، يجب أن تأتي فورًا، فردَّ عليها ببرود: ماذا يريد؟ هل أزعجتموه بالبكاء والشكوى؟ وبعد بعض الإصرار، تبعها إلى غرفة الطبيب.
دخل والد محمد الغرفة، حيث طلب الطبيب منه الجلوس، وأمره بإخراج زوجته، فوجه رأسه إلى زوجته قائلاً بلهجة آمرة: اخرجي، الطبيب يريدني وحدي، خرجت الأم وهي تبكي، تتساءل بقلق: هل أصاب ابني شيء خطير؟
أما والده، فكان يقف بعناد، ويحاول إخفاء قلقه، قائلاً لزوجته بغضب: توقفي عن هذا التهويل، أنا واثق أن الأمر بسيط.
وبعد أن أغلق الباب، تحدث الطبيب بهدوء لكنه محمل بالأسى: للأسف، ابنكم يعاني من ورم خبيث في آخر مراحله. لم يستطع الأب استيعاب ما سمعه، وشعر وكأن صاعقة ضربته، كان يحاول أن يسيطر على مشاعره، لكن وقع الصدمة كان أكبر من أن يتحمله، نظر إلى الطبيب بعيون مذهولة، وتمتم بصوت مخنوق: مستحيل، دكتور! أعد الفحوصات، قد تكون مخطئًا.
أدرك الطبيب أن الأب في حالة إنكار، فأجابه بصوت هادئ وحازم: نحن تأكدنا من التشخيص أكثر من مرة، الحالة متقدمة، ويحتاج ابنكم إلى رعاية ودعم أكثر من أي وقت مضى.
تساقطت كلمات الطبيب كحجارة ثقيلة على صدر الأب، الذي لم يدرك حتى ذلك الوقت مدى قسوة معاملته لمحمد، شعر فجأة بندم عميق، إذ أدرك أن ابنه كان يكتم ألمًا أكبر مما كان يتصور.
مرت الأيام ببطء وثقل على عائلة محمد، حيث خاضوا رحلة علاج طويلة مليئة بالأمل والخوف، كان محمد يقاوم المرض بقوة، محاولًا البقاء متماسكًا من أجل عائلته، خاصةً والدته وأخته الصغيرة نور، التي كانت تلازمه دائمًا وتملأ حياته بالحب والدعم، ورغم كل المحاولات الطبية، لم يستطع الأطباء السيطرة على انتشار المرض، وفي نهاية المطاف جاء أمر الله ورحل محمد عن الدنيا، تاركًا وراءه فراغًا كبيرًا وحزنًا عميقًا في قلوب أهله.
كان فقدانه صدمة لا يمكن تجاوزها بسهولة، خاصةً لأخته الصغيرة التي كانت تعشقه وتعتبره الأخ والأب والصديق، عانت من ألم الفراق ولم تستطع تقبل غيابه، فتجسدت في داخلها مشاعر الفقد بشكل لا يُحتمل، أما والده فقد غمره الندم على القسوة التي كان يعامل بها ابنه، وأخذ يُفكر في كل لحظة لم يقدر فيها محبة محمد وتفانيه.
أما والدته تقضي لياليها بالبكاء والدعاء لروح ابنها، بينما كان والده يواجه صراعًا داخليًا مؤلمًا، يلوم فيه نفسه ويشعر بأن قسوته قد حرمته من التعبير عن حبه لابنه فقد غمره الندم على القسوة التي كان يعامل بها ابنه، وأخذ يُفكر في كل لحظة لم يقدر فيها محبة محمد وتفانيه.
أصبحت ذكريات محمد جزءًا من حياة عائلته اليومية، تملأ أركان البيت بحضور روحه وتذكرهم بقيمته الكبيرة، ومع مرور الوقت، تعلمت العائلة، بصعوبة بالغة، أن تعيش مع الذكريات، واستمروا بالدعاء لروح محمد، وأصبح حلمهم أن يحققوا جزءًا مما كان يطمح إليه، إكرامًا لذكراه الطيبة، وليبقى اسمه حيًا بينهم.