سفينة الحِجْرِ
د. طالب بن خليفة الهطالي
قال الله تعالى في الآية (5) من سورة الفجر: ﴿هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ﴾ فقد جاء في تفسير ابن كثير “لذي حجر: لذي لبّ وحجا،….(1) وصاحب الحجْر هو صاحب العقل الرجيح الذي يضبط نفسه فيمنعها عمّا لا ينبغي ولا يليق. قال الألوسي: “والحجْر: هو العقل، لأنه يحجر صاحبه، أي: يمنعه من التهافت فيما لا ينبغي، كما سُمّي عقلاً، ونُهيه، لأنه يعقل وينهى، وحصاة من الإحصاء وهو الضبط. وقال الفرّاء: يقال: إنه لذو حجْر إذا كان قاهراً لنفسه ضابطاً لها”(2)
وسمّي العقل حِجراً؛ لأنه يمنع الإنسان من تعاطي ما لا يليق به من الأقوال والأفعال. فمنذ الخليقة الأولى والعقل هو النور الخفي الذي منحنا الله سبحانه وتعالى إيّاه لنباشر به أمور دنيانا وآخرتنا بالنمط والمنهج الذي يضمن سيرورة حياتنا التي تمضي وفق الضوابط التي سنّها الله لنا، فالبغية معروفة والمقصد جلي لأولي الالباب، لأن العقل هو محل الإدراك والتمييز الذي فضّل الله به البشر على كثير من المخلوقات﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ (الإسراء، الآية 70).
لقد ميّز الله سبحانه وتعالى البشر بالعقل وجعله حجرٌ يحجر بين الإنسانية والحيوانية، ولبٌّ خالص من الشوائب وعوارض الشبه يُدرَكُ به الأشياء على حقيقتها ويُميّز به ما بين الخير والشر، وبالعقل يبيّن مدى فهم الإنسان ووعيه وإداركه وتحديد قدراته وملكاته في الحفظ والفهم، غير أن هناك تفاوتا وتمايزا في العقول بين البشر في الملكات والقدرات العقلية والفكرية ومستويات الذكاء والفهم والحفظ، ويمكن القول أنها أرزاق فضّل الله بها بعض العباد على بعض، ولطالما تميز المسلمون على مر العصور فطوّروا العلوم وشيدوا البنيان وتبحّروا في العلم والأدب وسبر كل مناحي الحياة، فقد كان لهم البصمة البارزة والفارقة والمؤثرة، كأمثال ابن سينا والفرابي والإدريسي وابن باجة وابن رشد وابن الهيثم وابن البيطار الذين برعوا في الطب والصيدلة والفلسفة، وعلوم النباتات والزراعة والجغرافيا، والجبر والرياضيات وغيرها من العلوم الأخرى. علماء كان لهم السبق وكانوا شعلة في زمانهم والانطلاقة الحقيقية للتطوير والاجتهاد حيث ساهموا في تنوير البشرية ونفعهم، إنهم مفخرة الأمة الأسلامية قاطبة فجهدهم وعلمهم جعل للإسلام شأن ومكانة، حيث كانت البلاد الإسلامية وجهة طلاب العلم.
لقد أورد (أحمد منصور، 2007) “أن العقل عند ابن خلدون في صميمه جوهر مجرد؛ أي: ملكة تهتم بالشمولية والتنظيم، وهي القدرة على رد قواعد الفهم إلى الوحدة وفقاً للمبادئ. مضيفا أنه كيـف يمكن للعقل أن يولّد المبادئ؟ كون أن هذا الفعل يعد ضرباً من ضروب التأمل. وعلى هذا فليس من الضروري أن يكون العقل كلياً من حيث الشمول؛ أي عقلاً مجرداً، ولكن عليه أن يكون عملياً؛ فالعقل العملي هو الوحيد الذي يقدر علـى إحـداث واقـع موضوعي”. (3)
والسؤال: كيف يمكن أن نطور عقول الناشئة ونهتم بها ونحافظ عليها؟
لا ريب أن كل شخص يطمح لبلوغ أهدافه وتحقيق أحلامه وطموحاته، إن طلب العلم هو المفتاح والعنصر الرئيسي لتحقيق ذلك، فطالبه يكون شغوفا به مصرٌّ على طلبه متحملٌ صعوباته وإكراهاته ومواضب على العمل الدؤوب الذي يوصله لاكتساب العلم والمعرفة، ليكون فرداً نافعاً مفيداً، ففي ظل التسارع المضطرد في العالم الرقمي والتقدم التكنولوجي ومع تداخل الأفكار والثقافات التي غزت العالم أجمع أصبحنا أمام متغيرات و تداعيات ومخاطر ومفارقات يجب الوقوف عندها، فكان لزاماً علينا تغذية العقل بالعلم النافع الذي يساعد على بناء الأمم وتطويرها، فالعقل هو النعمة التي أنعم الله سبحانه وتعالى على بني البشر وبه ميّزه عن سائر مخلوقاته لما له من أهمية، فقد جعل الله العقل من مقاصد الشريعة الإسلامية وحرّم كل ما يضر به ويؤثر عليه سلبا، فالإنسان الواعي المدرك تجد أنه متسق في تصرفاته متزن فيما يقول ويعمل، ولهذا فإننا بحاجة إلى النخبة المخلصة التي يكون همّها رفعة مجتمعها وتقدمه وعدم تقديم المصلحة الشخصية على المنفة العامة، فهناك شريحة من الشباب تدرك أنّ قيادة المجتمع بعلم راسخ نافع وبوعي وإدراك وبعد نظر جنبا إلى جنب كل في مجال اختصاصه يساهم في رفعته وتطوره وتقدمه.
ولتحقيق ذلك يلزم أن تكون التنمية والتطوير حاضرتان والإلمام بكافة المستجدات وربط الكليات بالجزيئات وتبادل العلوم والمعارف واحتضان العقول النيرة والأفكار البناءة لاستشراف المستقبل، أما مع غياب ذلك فإن العقل ولا ريب يكون هشّاً مشوشاً إن لم نقل زائفا ضعيفاً – فلا يدوم بناءٌ أساسه ملح – فوعي الشعوب والمجتمعات يقاس بوعي أفرادها، فالمتربصون والمنتهزون كثر، ولا نبالغ إذا قلنا أن التسلح بالعلم والمعرفة عاملان مهمان للفوز والنجاة. فتغييب الوعي يهدف في المقام الأول إلى استئثار جهود الأفراد وتوجيهها إلى تحقيق مآرب معينة لا تعود بالنفع، فينتج عنه تفكيك العلاقات بين أفرادها وبذلك يسهل قيادتها أخذاً بمبدأ فرق تسد، ويحضرني ما قاله المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي في الاستراتيجيات المستخدمة من قبل الجهات المستبدة من أجل ترويض الأفراد وقيادتهم إذ يمكن تشبيهها كأذرع الأخطبوط ونستعرض بعضاً منها بشيء من الإيجاز وهي:
1. الإلهاء: وهدفها هو صرف انتباه الرأي العام عند الأفراد عن المسائل المصيرية وإشغال الأفراد بمسائل فرعية وشغله بنفسه.
2. ابتكار المشاكل وتقديم الحلول: وتهدف إلى بث الذعر عند الأفراد وإيهامهم بعدم قدرتهم على تدبير أمورهم وإرغامهم بالرضى بالحلول المقترحة مهما كانت هروبا مما هم فيه.
3. التدرج: هو التهميد بخطوات مدروسة لتحقيق أهداف معينة حتى لو كلفها الوقت والمال من أجل ضمان تحقيقها.
4. المؤجَّل: هي بمثابة غسل الأدمغة من خلال إيهام الأفراد بتحقيق شيء هم يطمحوا إليه في المستقبل وكسب موافقتهم وثقتهم والهدف هو عكس ما تم إشاعته مع افتعال ما يبرر اتخاذ القرار المعاكس لما وعدوا به سابقا، فالنفسيات تتقبل الجانب الإيجابي “الخير قادم وغدا سيكون الأفضل” التي لا تبنى على عقل أو منطق.
5. أستصغار العقول: تقوم هذه الاستراتيجية على استصغار عقول الأفراد من خلال مخاطبتهم بأشياء أقل بكثير من مستواهم العقلي والعلمي والفكري، فيكون الرد مجردا بذات مستوى السؤال أو الكلام المخاطَب به.
6. استثارة العاطفة: وتهدف إلى تغييب الفكر والعقل من الموضوع وتلعب على دغدغة المشاعر والهدف من هذا هو التغطية على الأخطاء واللعب على وتر العاطفة وانتقاء الكلمات الرنانة المؤثرة التي من شأنها تغييب العقول وتخدير ردود الأفعال.
7. الجهل المقنع: وتعمل هذه الاستراتيجية على تغييب الجانب العلمي والمعرفي عند الأفراد في أدنى مستوياته وإعلاء الجهلة المطيعين.
ولبناء مجتمع متكامل فإن مجالات الوعي على متخلف أطيافها – الدينية والسياسية والأخلاقية والبيئية والعلمية، إلخ…. – يلزم عدم تقديم المصالح الخاصة على المصالح العامة وأن القيادة لا تتحقق إلا من خلال العمل جنبا إلى جنب لضمان استمرار التنمية والتطوير، أما تجاهل وكبت القدرات وتهميش الكفايات وعدم تبني الأفكار والمقترحات الجديدة فإن ذلك يعد هدراً وتبديداً للجهود والطاقات.
وللموضوع تتمة بإذن الله تعالى……
المراجع:
1. تفسير ابن كثير،
2. روح المعاني 15/337، وانظر: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور 8/415
3. اسلامية المعرفة.2007، السنة الثالثة عشر، العدد 51، شتاء 1428/2007
بورتو، إميل. فسلفة كانط، ترجمة: عثمان آمين، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للتآليف والنشر، 1971م.