وجه آخر للحياة
طه جمعه الشرنوبي
لا يستطيع أحد البوح بأكثر من تنهيدة يلفظها في وجه السماء، يشق صدر الصمت لِإحداث فجوة يتسلل من خلالها إلى السماء الأولى ويكون قريباً أكثر من الله ليقول له:” هذا ما أردت قوله في الأرض لكني لم أستطع يا الله”
نحن نعيش في مستنقع لا يعرف حتى البدائية ولا الفطرة كلما تسلل الخوف إلينا بوحشية جعل الكثير منا يتسكّع مع قطّاع الطرق والمجرمين، وينام الخوف إلى جانب الرصيف يفترش صحيفة الوطن وينام فينا.
عندما نكبر قليلًا، تبدأ الأحزان الصغيرة تخترق كل شيء تُحاسبنا، تصفعنا كطِفل ولا تُقدّم له حلوى؛ نتذكرها..!
تجر أقدامنا خطوة واحدة إلى الأمام فقط ولا تسمح لنا بأكثر من ذلك كصخرة نبتت وسط البحر ولا تزال تكبُر؛ تنمو عليها الحشائش الخضراء والطحالب تزورها الطيور، وتتكيء عليها الأصداف، كل الكائنات تتكيء عليها رغم أنها في الأساس تورطت بالغرق!
حياتنا جثة مفقودة، لن تجد من يُقبّلها مرة أخيرة، ويضع لها العطر، لن تجد من يضع يده تحت خدها عندما تنام.
نسُدّ فم جراحنا بخرقة لا تسمح لنا بالتنفس لتجعلنا ننتفض كعصفور، لتُفسد علينا إحساسنا بأننا موتى.
نود أن نعيش الوهم الذي يسافر عبرنا، دون جواز سفر أو تأشيرة أو أوراق ثبوتية، إلى مكان آمن داخلنا، إلى واحة تُشبه الأحلام، نستأنس لأنفسنا بمجرد أنْ نشعر وأنّ لنا أجنحة.
نركض داخلنا، نقطع مسافات في الثانية الواحدة، وما أن نتعب، يسند الوهم ظهره إلى قلوبنا، يتوقف قليلاً لينام.
يقول أحدهم:«ألصقوا صورة طفلي المفقود على كل أعمدة الإنارة على امتداد الشارع، حتى بعد أن عثرنا عليه لم يتبرع أحد بنزعها، كلما عبرت الشارع بسيارتي تتكرر الصور، عمود إنارة تلو الآخر يخبرني أن طفلي لا زال مفقوداً..» هكذا هي الحياة مهما تعددت الأقوال بأن ما نعيشه تُدعى حياة إلا أن هناك أفعالاً تُشعرنا بأنا نعيش الموت.
لسنا إلا أيام مستعملة، مليئة بالتجاعيد، خطّها الزمن على وجهها، تُفسد فينا الأشياء التي نُحبها، تجعلنا لا نسد أُذن القلب عن ضراوة الآلام، وتُنسينا طراوة الحُب.
لقد تورطنا بالولادة، وتورطنا باستعمال حياة، وتورطنا بالوجود الذي يمارس فينا قسوته تجبُّراً.
كتب الفيلسوف الدكتور زكي نجيب محمود ذات مرة عن «حُمّىٰ الحياة» وذكر كلمات سقراط الأخيرة. عندما قال لتلميذه كريتوس: ” أنا مدين بدين لـ آسكليبيوس المخلص، فلا تنسى أن ترد الدّين يا كريتوس”.
وعن ما إذا كان سقراط يرى أن الحياة حُمّىٰ وداء وبمجرد أن يموت فيكون قد برأ منها ..!
“على قيد الحياة” هذا ما يمكن كتابته في إثبات الشخصية والأوراق، لكن ليس بالضرورة أن يكون صاحب هذا الإثبات حياً، لا يمكن أن تمثل هذه الأشياء قيمة مضافة للحياة إن لم تكن الحياة نفسها قيمة مضافة.