واحد نفر.. (one amri)
خليفة السعيدي
قادتني الصدفة أن أتابع حساب في برنامج (الإنستجرام) كُتب على تعريفه (واحد نفر)، بينما يظهر على صورة التعريف الشخصي له شاب يقف في مكان مرتفع مولٍّ ظهره وكأنه يغازل السماء بنظراته الطائشة، دار أول حديث بيننا عن كتاب كنت أبحث عنه أظهره شيخنا على (قصته) وجرى الحديث مهرولاً بيني وبينه..
كان صديقنا نفر من مئات الأنفار المطحونين تحت وطأة أفكارهم، كنت أشف الكثير من الألم مبثوثاً في قسمات كتاباته، ومنعكساً على نبرته في الحديث التي اكتست بأسف عميق..
كان صديقنا يفتح بين فينة وأخرى سؤال في قصته، تحت مسمى(جوابات الشيخ)، كان بارعاً في التشدق بالفكرة، باستطاعته أن يوصلها للقمة، ثم يسهل عليه مناقضتها بدون تكلف، وفوق كل هذا تعجب من أسلوبه الاستفزازي، الذي يجعل المتلقي يخرج ما في أعماقه من حنق ثم يرجعه بكل برود إلى نقطة البداية، رغم كل هذا كان واسع الاطلاع، غزير المعرفة، يتملص عن التعري بشخصيته أمامك إلا أنه، حزين الطبع، لطيف الجانب، ليس متكبراً ولا متواضعاً إنه بين بين، أجده أحياناً سياسياً مثقلاً بكل تعقيدات العالم، ثم ينقلب إلى صوفي ترق مناجاته كأنها النسيم، يسبح في سماواته ويغوص في ابتهالاته، ثم تأخذه سكرات أفكاره إلى الفلسفة فيحلل ويناظر ويأطر، وبعد ذلك يرجع إلى كتاباته التي يكتبها بمداد الروح ونزيف القلب عن المعذبين والمنكوبين ثم ينساب إلى أعمق أعماق النفس الإنسانية وكأنه سيفنى…
كنت ألجأ إليه عندما ترهقني فكرة مجنونة، أو في تلك اللحظات عندما تكون نفسك تتأرجح بين النور والعتمة، أو عندما تخلخل روحك، وتُصبح فراغاً تعجز الكلمات عن طمره، ثم تأتيني كلماته كدثار دافئ في ليلة بردٍ أو مناخٍ من الخشوع يتغلغل إلى روحك، باختصار كلماته المصفوفة بشيء ما بين المنطق والصفاء يذيب دُخان الآهات المتراكمة في رأسك..
وبرغم من كل هذا، لم أسأل صديقي الافتراضي عن تفاصيل حياته، حتى إنني لا أعرف اسمه، ولا أعرف من أي بقعة من الوطن جاء، إنه هكذا بقي بتلك الصورة الخيالية التي رسمتها له في ذاكرتي من غير شوائب التعارف ولا اللقاءات العابرة، دائماً ما كان يحدثني عن الفيلسوف المتصوف والأديب البارع أبو حيان التوحيدي، لا أدري ماذا لقي فيه، ولكن قد يلتقي الشبيه بالشبيه..
وفي ذاتِ صباح بينما كنت أتصفح حسابه فُجعت بذلك السواد القاتم في صورة حسابه المُعنْونة بتلك الكلمة الباهتة (مغلق)، صديقي النفري انثال من حسابه ومسح كل شيء خلّفه ورائه، فلسفاته، جواباته، كل شيء، ورحل دون وداع ودون كلمة، ربما أراد أن يتحرر من كل شيء، ويخرج من ضيق حسابه الإنستجرامي إلى فسحة الكون ومعترك الحياة…
نسيت أن أخبركم، إن استغراقنا في تفاصيل الحياة ينسينا
القواعد الأساسية..
(كل شيء له بداية ونهاية)
هكذا بدون أسباب …
الأشياء الجميلة لا تستمر إلى الأبد، انتهزوا الفرص…