2024
Adsense
قصص وروايات

صراع الأجيال

إلهام السيابي

يخيم انتشار عبق رائحة القهوة العربية المختلطة بشذى رائحة الهيل أرجاء المكان، ممتزجة بعبير اللبان المتصاعد من مجمر الفخار الموضوع على روزنة جانبية في ركن المجلس العربي الكبير، أعاد بي إلى ذكريات جميلة أحن إليها كحنيني لرائحة عطر أمي، افتقدها الآن وأنا بين أولادي وأحفادي، فبرغم تجمعنا الأسري نهايه كل أسبوع كما تعودنا مع الأهل في بيتنا الحالي، إلا انها خالية من روح نكهة الحياة والفكاهة ودفء القلوب التي اعتدنا عليها مع أقاربنا، من شعور جارف يتجاذبنا كلما اقرتبت لحظات اللقاء، تغمرنا الفرحة والشوق والحنين، ففي ذلك الزمن الماضي الجميل وخلال ساعات الأصيل من كل يوم وأحيانا كثيرة بعد صلاة العشاء نجلس مع الأهل والأقارب والأصحاب والجيران، نرتشف القهوة و نتناول حبات التمر المرصوصة بعناية كقلادة ذهبية تخطف الشهية، في أوعية فخارية صغيرة جذابة، تأخذنا تجاذبات الأحاديث بالسؤال عن الأحوال والأوضاع، وَبعدها نخوض في قصص البحارة المغامرين والتجار المسافرين، أو الآباء المغتربين في البلدان المختلفة بحثاً عن العمل أو الرزق أو الدراسة أو أهداف أخرى، أملاً في العودة إلى الوطن بعد تحقيق كل هدف منشود أو عمل مطلوب أو حمل مال مشهود، َحكايات جلساتنا كانت تجر بعضها بعضاً بسلاسة وهدوء، فلا نشعر بالوقت الذي مر علينا ونحن منصتون لروايات الحنين، وعقد الياسمين، وحكايات سندباد وعلاء الدين.

ما أجملها تلك الروح الطيبة التي كانت تحتوينا، ونسمات دفء المشاعر التي كانت تضمنا، كنا نخاف على بعضنا البعض، فالجار لم يكن جار فقط، بل كان أخاً وأباً مشاركاً في التربية، إذا رأى إعوجاجاً في تصرفات أحد أبناء الحي، أقامه وأصلحه، وإن رأى خيراً أسهب عليهم بالمدح والثناء وساعدهم وأخذ بأيديهم إلى طريق الصواب والصلاح، كنا لانحب القيل والقال، والتفاهة من الكلام، بل نكتفي عند رؤية نظرات الحذر في عين الوالدة، فيثقل اللسان ويدب الخوف في الأبدان، فسبحان من يغير ولا يتغير، سبحان من خلق الكون باختلاف الأجناس والناس، باختلاف الألسن والثقافات واللغات، باختلاف الأفكار والآمال والأحلام، في زمان مضى كنا نرسم أحلاماً كثيرة، وآمالاً ومخيلات وطموحات وأهداف، و نخطط لها بعفوية عقولنا الصغيرة البسيطة كرؤية مستقبلية.

ما أجمل أحاديث جداتنا وهن يقصصن لنا قصص الأبطال الذين يخاطرون بأنفسهم في إنقاذ الناس من براثن العدوان، وإحقاق الحق وإرجاعه لأهله، وإزهاق الباطل ووضعه في نصابه، جداتنا لم يكن لهن نصيب وافر من العلم الذي حظينا به، فبيت المرأة وحسن تربيتها لأبنائها هو كل ما كانت تطمح إليه جداتنا وأمهاتنا، نرى الفرحة بأعينهن عندما نرتقي في كل مرة في مدرجات العلم ومن نجاح لآخر، وكأنهن من ينجحن ويرتقين ويحققن أعلى الدرجات للدخول لأفضل الكليات، هي ((أمي)) من استلمت الشهادة لا أنا، ورغم تعليمها القليل إلا أنها أنجبت، وسهرت، وربت أجيالاً ليعيشوا آمالهم وطموحاتهم وليحققوا رغباتهم، ولكن ماذا حدث؟؟.

أتغير الزمان أم نحن من تغير؟؟ ولم نستطع أن نفهم هذا العالم الجديد، وهذا التطور السريع والمخيف!!، لم نستطع أن نربي أبنائنا مثلما نشأنا وتربينا! فإن تحدثنا عن الأخلاق والقيم نظروا إلينا وكأننا من عالم العقول القديمة الرجعية، وإن تحدثنا معهم عن الدين والدنيا، كنا من أصحاب التخلف والعقول الضيقة!!. كم نرى الدنيا دار فناء وهذه الأجيال هم أهل الغناء والمراقص واللهو، وكل شي لديهم حرية شخصية، لم يعرفوا حقيقة الدين كما عرفناه كقوة أقامت أجيال الماضي الجميل، وكثرة الاستغفار الزاد الذي تلهج به ألسن الصغير والكبير، والآن تعلو أصوات الأنغام والقيثارة والمزمار، لما ابتعدنا عن مجالس وحلقات القرآن؟؟ أصبح أبنائنا يتذمرون من الحفظ وهم بالأغاني يصدحون، أهؤلاء من أمة محمد؟؟ النبي الذي كان يناجي ربه ب((أمتي أمتي)) وهم متغافلون لا يعرفون سوى أسماء اللاعبين كميسي وماردونا ورونالدو وغيرهم كثيرون. هل انا خائفة؟؟
بالفعل خائفة بأنني لم أحمل رسالتي مثلما فعلت جداتنا وأمهاتنا، أهدرت الوقت الثمين في تفاهات السنين، أضعت الجوهر وجعلت جل اهتمامي بالمظهر، فكيف ستسامح كل فتاة أمها على تركها بين براثن المنحطين والتافهين المترصدين لهم في هواتفهم ينتظرون زلة زر أو صورة ليبتزها فتصبح لهم صيداً سهلاً وثميناً، ماذا ستقولين أيتها الأم لابنك وأنت تتركينه بين حفنة من أبناء المجتمع المرضى الباحثين عن كبش فداء جديد ليكون حديث للشلات الفاسدة؟؟. كيف سيدفع عنه السوء وأنت من أحضرته بحجة التعرف على صحبة جديدة للتغيير من حياة الركود والملل؟؟ فترمينه بيديك لمستنقع الفساد لتتناوشه الآفات القذرة من فئات المجتمع، ماذا بك؟؟؟ هل أعميت العيون عن مشاهدة الحقيقة وران القلب بملهيات الحياة، وبعدك عن طريق الصالحين وتقربك لأصحاب القلوب الفارغة والمتكاسلين الذين لا يعجبهم حالهم ويبحثون عن البدائل السهلة التي لا تثير إلا الكسل وطول الأمل، ولكن الله كريم، عفو، لطيف يتقبل توبة النادمين.

هيا بنا نعود لكتاب الله، لنحفظ أولادنا من غواية الشياطين، فبالعلم تسمو الروح فنحارب العقول المريضة ويرتقي العلم والعقل لنصل درجة المتقين.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights