وحانت ساعة الرحيل
خلفان بن علي بن خميس الرواحي
عند ذلك المحلّ في قريتي الصغيرة ، وقفت متأملاً ، وضعتُ قدمي اليمنى على الجدار ورفعت رأسي عالياً أنظر إليها وقد هلّت دمعةٌ حزينةٌ على الحال الذي وصلت إليه ، كانت في ثوبها الأخضر القشيب تملأ المكان جمالاً برائحتها الزكية، واليوم بدأت تخلع رداءها وتتخلص منه قطعةً قطعة .
سرحتُ بخيالي عندما كنت أقود والدي الأعمى لهذا المحلّ ، ليس دائماً أقوم بهذه المهمة بين الفينة والأخرى ، كان أغلب كبار السنّ قبل الحادية عشرة صباحاً يجتمعون حول (سوسة) العامل الهندي الذي يعمل فيه بوجهه الدائريّ ولونه الأسمر وفمه العريض الذي لا تفارقه الابتسامة عادةً يجلسون معاً، مجموعة من السوالف بينهم، وتسمع صوت العمّ ناصر سوسان كان يدلّعه عندما يناديه سوّي كيلو سمك، المحلّ على صغره كان سوقاً عند الحادية عشرة عادةً يخرجون من عنده وكلّ منهم يحمل كيساً فيه شيئاً للغداء. الغريب في الأمر أن هذا العامل لا يتبرّم منهم مطلقاً وهو لا يفهم كثيراً من الأحاديث التي تدور بينهم إلا إذا نزل أحدهم لمستواه وسهّل له المصطلحات.
يغلق سوسة المحلّ مع صلاة الظهر ولكنه يظلّ حاضراً في غرفته المجاورة، فكانت الطَرَقات على الباب دائمة لا تنقطع وهو لا يردّ أحداً، أحياناً يأتي طفلٌ يحمل مائة بيسة ليشتري بها، لا يتردد في فتح المحل وغلقه من أجل ذلك الطفل.
تمرّ الأيام ويرحل ولا نعرف حاله الآن، ومن كان يجلس حوله على الكراتين المتناثرة في المحل أو جواني العيش والطحين وقد حفظ كلّ واحدٍ منهم مكانه كذلك رحلوا.
كلّ هذا دارَ في ذهني وأنا أطالع الصبارة وقد بدأت رحلة التلاشي بعد تلك القوة والجبروت، وبعد السنوات التي قاومت فيها كلّ شيء، الرياح والمحلّ، وتحملت العطش، آنَ لها الرحيل تاركةً خلفها ذكرياتٍ جميلة ما زالت راسخة في الذهن ولن تنمحي مهمَا مرّت الأيام، وسوف نذكرها للأجيال القادمة بأنها كانت هُنا أمّنا الصبارة .
تحركتُ من مكاني بأقدامٍ ثقيلةٍ لا تقوى على حملي، ليس من ثقلي ولكن قد يكون الحزن الذي أحمله أثقل. وصلتُ إلى باب المجلس وفتحته وأدخلت رأسي قليلاً من الفتحة بين فردتَي الباب الكبير الذي تحميه رسمتان للكند أحد الأسلحة المستخدمة في عمان رسمهما العامل الهندي ببراعة، نظرتُ إلى فناء المجلس وقد تناثرت عليه الأغصان اليابسة التي سقطت من الصبارة، وبدأتُ في جولةٍ حولها وبدأتِ الذكريات تتوارد عليّ من كلّ مكان، هنا كان المعلم ناصر يجلس عندما كنّا نتعلم القرآن الكريم ونحن حوله في حلقةٍ عريضة، يتقدم الأول تلو الآخر حتى يقرأ المقرر عليه سواء حِفظاً أو تلاوة، وهناك البقية يمسكون بمصاحفهم يراجعون حتى يأتي إليهم الدَّور.
مشيت قليلاً وتأتي صورة رئيس الفريق وهو يدير اجتماعاً، كانت القرى الثلاث التي يجمعها المثل سيماء خت مقزح تحت مظلة فريقٍ واحد، كُنا صغاراً نحضر الاجتماعات لهدفٍ واحدٍ، علبة العصير (سن توب) التي توزّع في نهاية الاجتماع، ربما كانت مكافأةً لمن حضر، لست أدري، نجلس ساعات كما يقال مثل الأطرش في الزفة وعندما يأتي الأمر بجلب العصير من الدكان القريب من المكان يدبّ فينا النشاط ونستعدّ لأخذ حصّتنا.
في ذلك الوقت الحصول على تلك العلبة ليس بالأمر الهيّن، لا يحدث إلا نادراً لقلّة ما في الجيب.
وأنا أسير لاحت لعيني تلك الحجرة التي كنا ندقّ عليها أوراق الصبارة لنأكلها، كانت متعةً ما بعدها متعة، وكم من المرات ضُربنا لهذا العمل، فقد كانت الصبارة غالية ولا يمكن لأحد المساس بها فكأنها شيءٌ مقدس ولكننا كنا نتحايل ونتصيّد الوقت لذلك أعواد عديدة ننزعها ثم نقوم بقطف الأوراق ونضعها في كومةٍ واحدة ونأتي بحجرة أخرى ونقوم بالدق على تلك الأوراق حتى تنطح. أحياناً يكون هناك شيءٌ من الترفيه عندما نضيف بعض حبات القاشع (السردين) للأوراق نهجم على الوجبة المنتظرة في حراسة الصبارة التي تنظر إلينا بفرح لأننا نتغذّى من أوراقها، لا نستغرب إذا وجدنا فيه شيئاً من بقايا الحجارة.
جلستُ عليها وتحركت أسناني وسال لعابي وكأنني أحسّ بطعم أوراق الصبارة في فمي، أغمضت عيني قليلاً والذكريات ما زالت تتقاذف من هنا وهناك لن أستطيع أن أذكرها هنا، هل أذكر جلسات قعد ماء الفلج (العين) وما يصحبها من فكاهات وأحياناً مشاحنات وتحديات؟
يرسخ في ذهني ذلك الرجل الوقور بلحيته وشعره الأبيض الناعم وهو يقف متكئاً على عصاه ويصرخ على الدلّال (سير فيه) عندما يقولها يعرف الجميع بأنه لن يتراجع، كذلك تجمع الأهالي عند توزيع عيش الوقف، وتجمعنا في الأفراح والأتراح عندما كانت تحتضننا تخفّف عنا وتفرح معنا.
وأنا على جلستي تلك نظرتُ إلى الجانب الشرقيّ من سور الصبارة كان طيناً وخلفه ساقية فلج الصفاة، لاحَ لي ذلك اللوح الخشبي الذي نضعه عليه ليبدأ الاستعراض بالدراجات الهوائية السرعة والسيطرة من أهم الأمور التي لابد أن يتقنها المشارك حتى يقفز تلك القفزة البهلوانية، طبعاً ليس الجميع كان بارعاً في ذلك. خلفان كان الأمهر بيننا طبعاً لست أنا، ذلك خلفان آخر، الغريب أن من يسمى بهذا الاسم بقريتي كُثر قد يكون أصغرهم الآن تخطى الثلاثين، وأكبرهم تجاوز الثمانين.
متعة تنقضي أحياناً بسقوط أحدنا في الساقية أو انسحاب المشاركين من الاستعراض، كل هذا ونحن نجلس تحت الصبارة ونتحلق حولها فكانت السعادة.
نهضتُ من المكان هارباً من الذكريات التي تطاردني وأغلقت الباب كما كان ومشيت مسرعاً بعكس ما قدمت إليها ومن بعيدٍ نظرت إليها نظرة وداع، وشعرت أنها تحدثني: رحل من كان يجلس تحتي، استغنت عني البلاد وأهلها، المجلس الذي شُيد تحتي كذلك هُجر، لم أعد أرى أحداً منكم لماذا أبقى؟ ليست لي حاجة، كما كنت سأموت فقد تنتفعون من جذعي وأغصاني أكثر فقط رجائي إليكم أن تذكروني لأولادكم.
والعَبرة تهلّ من عيني أجبت بصوتٍ عالٍ: حسنا لك هذا،
آخر الكلام ..
انتهت قصة الصبارة وعمُا قريب سوف تُقطع بمنشارٍ كهربائيّ يتعاون في ذلك أهل القرية ليخلو المكان منها ويظل فارغاً ويحتاج لنا سنوات حتى نتعود على ذلك.