العقل بين النقمة والنعمة
حمد بن سعود الرمضاني أبو سلطان
هناك الكثير من البشر – برغم معيشتنا الحالية في أسلوب التفكير والتقدم العلمي- من يحمل الشقاء والعناء على كاهله، يتكلف بما هو ليس أهل له، ولا منوط بمسؤولياته، وليس له القدرة والتأهيل الكافي لتحمله وإدارته لتسيير عجلة الحياة بالقدر الكافي إلى التقدم إلى الأمام، وخوض غمار المسؤولية كما يراد لها وينبغي.
يعاني الأمرّين، إنهاك جسديّ وعضليّ كامل، وترهّل عقلي وفكريّ فاسد، يتصارع مع نفسه في الليل والنهار، في قلقٍ وتوترٍ دائمٍ لا يهدآن، بلا استكانة تقعده ولا اطمئنان يودعه، بل الحيرة تكتحله في كلّ وقتٍ ومكان، تطير بألباب عقله، وتنغّص عليه حياته وفكره، لا يهدأ له بال، ولا يستقيم على حال، ينتكس به السيّء من الأفكار، وتلتهمه ضواري الحيرة في كل مسار، لا يهتدي لحلّ مسألة، ولا يستعين كيف تحلّ المعضلة، يريد أن يفكّ كرب العالم ومعضلاته، وهو عاجزٌ عن إيجاد حلٍّ لمشكلاته، يهيم بالبحث في قفار صحراء عقله المجدب، ولا يهدأ حتى تهلكه حيرة التفكير، ويدخل في غيبوبة التيه الخطير.
هؤلاء التائهين من البشر، المحلقين بأجنحة مكسورة بالية، لا تحملهم أفكارهم إلا إلى متاهات الحيرة والضياع والخراب، يجرّون خلفهم رتماً من قوافل المقتفين أثرهم والمصرّين على أن هذه الفئة هي الصورة المثالية التي يجب اتّباع أثرها والاقتداء بضبابية عقيدتها وآرائها الضالة المُضلة، هم يشكّلون جسراً من الوهم الرامي إلى الفساد والإفساد، وإلى التقهقر والإنزواء، لا تقوم على قواعده المتأرجحة الهشّة إلا بنياناً ضعيفاً تلتهمه سرعة حركة نمط التجديد في التشييد والبناء وطريقة التفكير وتطور الحضارات، فالتجديد سمة من سمات البشر، والنهوض من قوقعة التقهقر والانحدار هو مطلب لتحرير العقول، والإمساك بما هو محمود ومقبول، لنتدارك أنفسنا قبل الوقوع في أوحال الوحدة والقطيعة، والتذلل لأهل الصناعة والاختراع والبراعة، والعيش بين مهالك الحاجة وفاقات الألم والحسرة و المجاعة، ووساطات التردّي لاقتناص نَزْرٍ من الشفاعة، فالعاقل هو من يعرف مكانة العقول الملهمة، والأقلام الواعدة المبدعة، وصاحب الأفكار التي ترتقى بها الأمم، وتعلو بها قامات أصحاب الهمم إلى مصافي المجالس والقمم. صانعة لنفسها مجداً ومكانة تقدّره الشعوب، وتبتعد بنفسها عن مخاطر شراك المقاطعة وويلات النقص والعزل والخصوم، فنحن أمة هداها الله للإسلام، وأنار طريقها بالقرآن، وخصها بأول سورة نزلت على سيد البشر والأنام، قال تعالى: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) }-سورة العلق.
وجعل الله التأمل في خلقه، والغوص في عجائب قدرته، مرتعاً خصباً للتفكير، وزاداً لا ينضب عطاؤه، ويستحيل أن يبطل جزاؤه، فالعقل مناطاً للتكليف، ومنه تزدهر دُرر الابتكار والحكمة والتأليف.