الخميس: 31 أكتوبر 2024م - العدد رقم 2308
Adsense
أخبار محليةمقالات صحفية

إنسان ينازع النهايات

خليفة بن سعيد السعيدي

يخيم الليل الشتوي، تغيم الأخيلة، تخفق المصابيح بلاكتئاب، وأشعل ذاكرتي في تذكر رواية (الناجي الأخير) للكاتب النمساوي تشاك بلانيك التي تدور أحداثها حول رجل من عائلة مسيحية متدينة، يسافر للمدينة، قادته الصدفة أن يتصل به الآلاف من البؤساء والمسحوقين تحت رحمة المسكنات والخمور ومن هم على شفير الاكتئاب، وهذا بسبب خطأ إحدى الصحف في نشر رقم لطبيب نفسي استبدلوه برقمه ،كان صديقنا يتلذذ بسماع تضرعاتهم، ويتفنن في منح النصائح لهم، ويستمتع بإنزال العقاب بهم، كان صاحبنا هو المخلص بالنسبة لهؤلاء ويكون فخوراً أن همس كلماته تكون آخر ما يسمعه ضحاياه….

الهاتف يرن، يعترف لي المتصل بخطاياه، أقول له لا مجال لإنقاذ روحك، قرِّب المسدس، انهِ معاناتك أيها البائس، اضغط الزناد! التجارب السابقة علمتني أن أبعد أذني عن الهاتف عندما أسمع تكة زناد البندقية، ويسقط الضحية في مكان ما..

لم يكن الانتحار وليد اللحظة، كان يُعرف من أيام الجاهلية وكان الدافع الأساسي لانتحارهم هو بعدهم عن الاتكاء بشخص خارق أو ( الرب) ليعلقوا عليه آمالهم ويرسلوا إليه أمانيهم ويشعروا أن قوى خارقة تدبر أمرهم، ومن أشهر طرق الانتحار هي احتساء كميات كبيرة من الخمرة مع قطع أوداج المعصم كما فعل الكثير من الشعراء أذكر منهم (زهير بن جناب /أبو البراء بن مالك /عمرو بن كلثوم) وكان بعضهم عندما يقع في الأسر ويخيروه بالميتة التي يشتهيها يختار ذات الطريقة كما خُير الشاعر (عبد يغوث الحارثي).. ينشد الشعر، يحتسي الخمرة، تقطع أوداج معصمه، ويذهب في سكرة الموت وهو يقول:

فيا راكبًا إمَّا عرضتَ فبلِّغنْ
نَدامايَ من نَجْرانَ أنْ لا تلاقِيا

أما الانتحار اليوم فقد كثر وتعددت أسبابه وطرقه، فالكثير من المنتحرين يهربون من الواقع،، ويعتقدون أن طلقة في الرأس هي الحل ولكنها للأسف حلٌ دائم لمشكلة مؤقتة..

الهاتف يرن يقول المتصل :(أنا رجل بلا امرأة.. بلا حقل للقمح.. بلا كرة للعب.. بلا ذكريات مضيئة.. بلا طريق للمستقبل، أنا قبيح).

(ارقد أيها القلب المعذب فوق صدر أمك الحنون واسترح إلى الأبد) أقول له وأنا نصف نائم.. أسمع تكة الزناد، إنها الثالثة فجراً… وأعود للنوم..

أما الفيلسوفُ الألماني آرتور شوبنهاور في كتابِه “العالم إرادةً وتمثُّلاً” فقد نفى بأن يكونَ الانتحارُ عملاً غيرَ أخلاقيّ، بل من حقّ الإنسان أنْ يملكَ حياتَه، وفي قصةٍ رمزيةٍ؛ قارنَ بينَ إنهاءِ حياةِ الإنسان لنفسه عندما يتعرَّضُ إلى معاناةٍ كبيرة وأنْ يستيقظَ من النوم بعدما راودَه كابوسٌ مروِّع.

ولكن شيخنا العلامة أفلاطون لديه رأي آخر فيقول : الانتحارَ ليس خطأً عندما تحكمُ الدولةُ على إنسانٍ بالموت، أو كان الإنسانُ مضطراً بسببِ سوء الحظ، أو عندما يعاني من عارٍ يائسٍ لا رجعةَ فيه، ولكنّه يرى أنّ الانتحارَ يجب أن يُجرَّمَ إذا كان ناجماً عن الكسَل والجُبن.

ولكننا نحن المسلمون لدينا معتقد آخر، ونظرة أخرى للجسد والحياة، فهي أمانة وهبنا الله إياها وعلينا المحافظة عليها والابتعاد عن كل مؤذي لهذا الجسد الذي هو ليس ملكك (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا).
ولهذا الانتحار حرام فلإنسان لا يملك نفسه حتى يقتلها، فما يخسره الإنسان بالانتحار أضعاف ما يكتسبه على حد قول أديبنا المنفلوطي عندما قال : (لا عذر للمنتحر في انتحاره مهما امتلأ قلبه بالهمّ، ومهما ألمَّت به كوارث الدهر، وأزمت به أزمات العيش.. وما خسره أضعاف ما كسبه..!)…

الهاتف يرن.. يقول المتصل: قل لي أرجوك كيف أنتعل الموت وأهرب من هذا الضجيج والصداع الذي يهشم جمجمتي ويصيبني بالغثيان، عائلتي مشتتة،، تم فصلي من العمل، تخلت عني حبيبتي، سألقي بنفسي وأترك لكم هذا العالم الذي جعلتموه يعتليكم ويفترس أحلامكم ويطبطب على الرمق الأخير من أمنياتكم المعفنة في سراديب صدوركم، أحدثك الآن من الطابق العشرون وبيدي علبة نبيذ فاخرة..

حسناً يا صديقي المنتحر اغلق عيناك، ارتشف جرعة أخيرة، والقي بنفسك، لا تنس أن تسلم على الملائكة.. قلت له ذلك وغار الصوت بعيداً…

من أكثر الرسائل تأثيراً وصدقاً هي رسائل المنتحرين؛ لأنهم يكتبونها بمداد الروح ونزيف القلب أنهم يخرجون ما كان يحتبس في صدورهم من غصص، ويطلقون الخوف الذي كان يكبلهم بأزاميل العار المجتمعي، ويعترفون للعالم أنه لم يكن منصفا معهم، للناس أنهم كانوا أنانيين في التعامل معهم، يتركون في الرسالة جرح عميق يسبر كل قلب، وحزنٌ ملتهب يسخن كل عين…

ولكن لماذا تكون أجود الرسائل هي رسائل المنتحرين، هل لأن طقوس الموت تخرج أصدق مشاعر الإنسان؟ تصبح نظرته ثاقبه! تزول عن قلبه غلالات بيوت العنكبوت المحملة بالمجاملات والماديات!

لماذا لا نزيل القيود والسدود والحدود ونكتب القلق الذي يفترسنا، الاكتئاب الذي يكوينا، المشاعر التي تهشمنا، أن نكتب قصتنا المستلقية في ذاكرتنا، أن نزور صديق قديم، أن نتنزه في أذهان كتبنا المفضلة، أن نتصالح مع أنفسنا قبل أن نسحب الغطاء مسرعين مثل كل مساء على أمل؛ الفجر الذي نحلم به لعلنا نقتنص سعادتنا المؤجلة..

الهاتف يرن : يقول لي قارئ هذا المقال : ما هذا السخف الذي تتفوه به؟ ما هذه الأفكار التي هتكت بها ستائر عقولنا.؟

أقول لك : أخرج هاتفك، أرسل رساله للجميع (الوداع سأنت…) وبعد ساعات القي نظرة على الردود، إذا كان جلها يقول : (إلى جهنم…) فاغلق هاتفك، وتلاشى مثل سراب، مثل غروب، عينك الآن تغور، الضباب يفترسك، الحركة تخونك، صوب قُبلة كبيرة إلى رأسك ولا تنسَ أن تتناول وجبة دسمة نخباً لذلك …

الهاتف يرن….

الهاتف يرن..

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights