تحتفل صحيفة النبأ الإلكترونية بالسنة السادسة لتأسيسها
Adsense
مقالات صحفية

لا عنصرية بينهما

د.علي زين العابدين الحسيني – باحث وكاتب أزهري

أريد أن أذكر بالضبط ما حدث في ذلك اليوم من أيام شهر يوليو سنة 2018م في المكان الذي بدأت فيه القصة، وكيف بدأت؟

حقاً الذاكرة لا تسعفني الآن لتذكر كثيرٍ من أحداثها، أو سبب ذهابي لهذا المكان، أكاد لا أتذكر إلا شيئاً غريباً رأيته أمامي في دولةٍ متعددةِ الأجناس، ومختلفة الأفكار، ومتنوعة الثقافات إلا أنّ الجميع يتعايش في تمازجٍ فريدٍ من نوعه.

سجلتُ هذا المشهد في دفتري منذ أن وقع، وكنت أعيد النظر فيها طيلة هذه المدة إلا أنه مع طول عهدي به صارت كتابته أشبه بالألغاز لا أفهم منها إلا اليسير، ولي عادةٌ استحكمت عليّ أنّي أسجل أغلب ما يجري حولي من أحداث يوميةٍ بكتابةٍ موجزة سريعة، والأكيد أنه لا أحد يفهمها إلا كاتبها.

أشير إلى الحدث بكلمات إن اطّلع عليها أحدٌ وجدها طلاسم لا يعي منها شيئاً، فهي وإن كانت ألفاظاً معروفة يتكلم بها إلا أن تركيب بعضها مع بعض مما يثير الدهشة ويبعث بالغرابة، لا أدري إن كان الفعل صحيحاً أم لا، لكن هكذا تعودت، ووجدت الراحة فيه.

اطّلعت على ما كتبته مسبقاً، وفهمت الخطوط العريضة، فبداية المشهد غريبة كما تشير إلى ذلك كلمات أستعملها في بيان الغرائب، وتدور الأحداث عن جلوسي في حديقة مكتظة بالأشخاص الذين قدِموا للاستفادة من الطقس المشمس والخروج مع عوائلهم، وبينما الأمر كذلك إذ فجأة شاهدتُ من بعد بنتين صغيرتين لم يتجاوز عمرهما العاشرة فيما أحسب، كأحلى ما تكون البنات في جمالهن وحليهن.

كانت البنتان تلعبان في هذه الحديقة المكتظة بالأطفال اللاهين فيما بينهم بشتى أنواع اللعب، لكن أخذت البنتان ناحية خاصة للعب سوياً، وكان لعبهما يتميز بالانسجام التام، ويتسم بالتفاهم المتبادل، وكأنّ كل خطوة من خطواتهما محسوبة لديهما ومدروسة عندهما.

هذه الحديقة على ما يكتنفها من زحامٍ وصوتٍ عالٍ حافلةٌ بتجاربَ جميلةٍ، حاولتُ بعد وقت الاقترابَ منهما، فكانت المفاجأة أنهما ليستا من بلدٍ واحد، ظهر ذلك من ملامح وجهيهما، ولعلّ سببب الاقتراب أنّي أردتُ معرفة سر هذا الانسجام والتفاعل الغريبين عن بقية الأطفال.

كيف وصلتا مع اختلاف بلدانهما لهذا الانسجام؟!

عادة ما يحاول الأطفال عند اللعب الاستحواذ، واستخدام الصوت العالي، وإظهار الغضب عند عدم تلبية طلبهم مما يجعل أمر لعبهم غير مستقر، فينبغي عليه المتابعة المستمرة؛ لأنهم غالباً محل إزعاج لمن حولهم إلا أن الأمر مختلف مع هاتين البنتين، فكان لعبهما يختلف عن الآخرين، حيث تشعر بشيءٍ ما يجعلك في راحةٍ نفسيةٍ للنظر إليهما، والاقتراب منهما.

تفاجأت أيضاً حينما اقتربت وسمعت منهما بعض الألفاظ باختلاف لغتهما، فبدا لي واضحاً أنهما لا يتكلمان لغة واحدة، وكنتُ قبل سماع حديثهما عرفت من وجهيهما اختلاف بلادهما، لكن حسبت أنّ بينهما لغة مشتركة يشتركان فيها للتحدث، وهذا أمرٌ آخر زادني دهشة.

أجل، لكَ أن تتخيل معي كيف وصلت البنتان لدرجة من التفاهم والتواصل قلّ الوصول إليهما من أطفال البلد الواحد، فما بالك بمن اختلفت بلادهما ولغتهما، فلكلّ منهما لغته الخاصة، ولا يشتركان في لغةٍ تجمعهما، لكنّه الحب حين يلتقي، والإنسانية حين تجتمع، فكان التقاء القلوب قبل الألسنة، وسادت الإنسانية على فعليهما، فلا عنصرية بينهما، ولا نظرة دونية.

أجل، العنصرية أمرٌ يبغضه العقلاء، لكننا -مع كل الأسى والأسف- نصنعه بأيدينا، ونرويه بكلامنا، ونترجمه في أفعالنا مع أنّنا نستطيع تحقيق معاني الإنسانية مع الآخرين دون التفاتٍ إلى أمورٍ خارجة عنها؛ لأنّها بكلّ ما تحمله من معانٍ وصفاتٍ يجب أن تكون الأساس والمرجع الحقيقي والمعيار التقييمي لأقوالنا وأفعالنا.

لقد عاودتني ذكرى الحديقة والبنتين الصغيرتين، فاستقرّ منظرهما في فؤادي، وإنّي لأرى في فعليهما مصباحاً يشع منه نوراً وأملاً في ضرورة العودة إلى روح الحياة بكلّ ما تحمله من أخلاق وإنسانية.

لا أبغضُ شيئاً في حياتي أكثر من بغضي لعنصريةٍ تفرق بين أبناء الإنسانية.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights