في حضرة المكان .. من يُنصت؟

خلف بن سليمان البحري
في كل زاوية من هذا الوطن الغالي، هناك مكان لا يزال يتحدث… لا بصوتٍ مسموع، بل بنبضٍ تخبئه جدرانه، بملامح حجارةٍ صبرت، وبظلّ شجرةٍ شهدت أكثر مما نكتب. هناك أماكن لا تقول شيئًا، لكنها تُشعرنا بكل شيء؛ تهمس لمن يقترب منها بشيء من الحنين، وتفتح أبواب الذاكرة لمن أحسن الوقوف عند عتباتها. لكنّ السؤال الذي يتكرر كلما اقتربنا من تلك الأماكن: هل نحسن الإصغاء؟ هل نُجيد قراءة التفاصيل التي لا تُقال، بل تُلمَس وتُشم وتُرى في ومضة دهشةٍ عابرة؟
إنّ ارتباط الإنسان بالمكان لا يصنعه الطلاء الجديد، ولا تعززه الأرصفة اللامعة، بل تنسجه القصص التي لا تزال تُروى من بين شقوق الجدران ونقوش الأبواب العتيقة. حين نشاهد جدارًا مشققًا لا تزال فيه رائحة يدٍ كانت تبنيه، أو نمرّ تحت قوسٍ قديم صمد في وجه الزمن، فإننا لا نمرّ على مبنى، بل على زمنٍ ما زال ينبض. وكل مكان يبقى حيًّا ما دامت فيه روحه، وما دام نظرنا إليه ينبع من تقدير ماضيه لا رغبةٍ في تلميعه.
وهنا تبدأ الحكاية مع ما نُسميه اليوم “سياحة”. فالسياحة ليست طريقًا يُعبّد، ولا منشأة تُشيّد، ولا زاوية تصوير تُعدّ بعناية. السياحة علاقة، حوار صامت بين الزائر والمكان. كل رائحة، كل ملمس، كل غصن شجرةٍ معمره، لهما قيمة إذا عرفنا كيف نقدّمه دون أن نُطفئ نوره. كلما أخلصنا في تقديم المكان كما هو، لا كما نريده أن يبدو، صرنا أقرب إلى عمق التجربة وأبعد عن سطح الانبهار.
ليست كل لمسة تطوير بركة، ولا كل تحديثٍ يُعدّ تقدُّمًا. فبعض التغييرات تأتي في ثوب الحداثة، لكنها تنزع عن المكان روحه، وتُبدّل نَفَسه، وتجعله أقرب إلى نسخة بلا ذاكرة. وهنا مكمن الخطأ: حين ننشغل بتلميع الجدران ونُغفل الحكايات التي تسكنها، حين نعيد بناء المكان ونفقد صوته.
كم من الأماكن خُدعت بزينة التطوير، ففقدت هيبتها وهويتها في لحظة غفلة. وكم من مواقع بقيت شامخة لأنها لم تساوم على ذاكرتها، وآمنت أن الحداثة لا تعني القطيعة، بل التكامل. أن الأصالة ليست قيدًا يُفك، بل جذرٌ يمد الحاضر بالقيمة، ويغذّي المستقبل بالمعنى. فالتطوير الحقيقي لا يهدم الماضي بل يحاوره، ولا يطمس الأثر بل يبرزه، ولا يُلبس المكان ثوبًا جديدًا يخنقه، بل يرقّع ثوبه القديم بمحبة وفهم.
الحداثة لا تُخيف المكان إذا جاءت تُكمل صورته، لا لتُطمسها. والتجديد لا يُفقده أثره إن عرفنا كيف نحفظ وجهه الأول. ترميم المكان بأيدٍ تُجيد الإصغاء لتاريخه، هو ما يجعل الزائر لا يكتفي بالنظر… بل يشعر، ويتفاعل، ويحمل معه إحساسًا لا تلتقطه الكاميرا. هناك فرق كبير بين أن نمنح المكان واجهة براقة، وبين أن نُعيد إليه صوته.
إنّ بعض المواقع تموت رغم ازدحامها، لأنها تطورت في الشكل وذبلت في المعنى. الزائر يمشي بين أروقتها كمن يقرأ كتابًا غُيّرت حروفه، فلا يفهم شيئًا، ولا يحمل منه ذكرى. بينما المكان الذي يُعاد بعثه من روحه، يُصبح تجربة نابضة… لا تُوثق بصورة، بل تُحفَر في الوجدان.
حين نحبّ المكان كما هو، ونخاف على هويته أكثر من سعينا وراء البريق، حين نصغي لصوته قبل أن نفرض عليه لغة لا تُشبهه، حين ندرك أن جاذبيته الحقيقية ليست في ما أُضيف، بل في ما بقي… نكون قد اخترنا الطريق الصحيح. حينها تغدو السياحة أكثر من نشاط اقتصادي، تصبح وعدًا بمستقبل نَبنيه ونحن نحمل ماضينا بأمانة. تصبح السياحة ثروة، لا تُستنزف… بل تنمو كلما صدقنا في الحفاظ، وكلما آمنا أن التطوير لا ينجح إلا إذا انطلق من الجذور، لا من فوقها.