المجلس الرسولي
د. علي زين العابدين الحسيني – باحث وكاتب أزهري
تتبعتُ وصف مجلس الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومتعلقاته مع أصحابه التي تجلت فيها مظاهر العظمة والحكمة والفخامة وبساطة الفطرة في كتب الشمائل والسير وشروحاتها، ولئن فاتنا رؤية مجلسه عياناً بأبصارنا كما فاتتنا رؤية ذاته الشريفة فلنا في معرفة صفاته الذاتية والخُلقية والإلمام بصفات مجلسه سَلْوى.
كان صلى الله عليه وسلم لا يجلس في مجلسٍ ولا يقوم منه إلا على ذكرِ الله عز وجل، ويحبس لسانه عن كلّ شيء إلا فيما يعنيه، ويلاطف الداخلين على مجلسه، ويُحسن أخلاقه معهم، ويؤلف بين قلوب المقبلين عليه؛ بحيث لا يبقى بينهم تباغض أو تنازع.
يرحم جلساءه ويعفو عن مسيئهم، ولا يفعل بهم ما يكون سبباً لنفرتهم، وإذا أقبل عليه كريمُ قومٍ عظمَّه بأفضل ما يكون مناسباً له من أوجه التعظيم، وجعله والياً أو أميراً عليهم؛ اعتقاداً منه -صلى الله عليه وسلم- بأنّ القوم أطوع لعظيمهم.
يحث أصحابه في مجلسه على طاعة الله عز وجل، ويخوفهم من عذابه، وإذا غاب أحدُهم سألَ عنه حال غيبته، فإن كان مريضاً عاده، أو مسافراً دعا له، أو ميتاً استغفر له، ويسأل الناس عمّا في الناس ليس تجسساً عن عيوبهم، وإنما لينتصر للمظلوم، ويدفع ظلم الظالم، ويُقوي جانب الضعيف.
إذا رأى في مجلسه شيئاً حسناً وصفه بالحسن، فيظهر حسنه بمدحه أو مدح فاعله، ويظهر قوته بدليلٍ منقولٍ أو معقولٍ، وإن رأى شيئاً قبيحاً وصف قبحه بذم الفعل أو ذم فاعله، ويجعل الفعل واهياً بمنع الناس، وزجرهم عنه.
لا يقترب منه في مجلسه إلا خيار الناس؛ لأنهم هم الذين يصلحون لتحمل أمانة الاستفادة ونقل العلوم وتعليمها، وأفضل الناس عنده -صلى الله عليه وسلم- أكثرهم نصيحة للمسلمين في آخرتهم ودنياهم، وأعظمهم منزلة عنده أحسنهم مواساة وإحساناً للمحتاجين ولو مع احتياج أنفسهم.
إذا وصل -صلى الله عليه وسلم- لقومٍ جالسين جلس محتبياً في المكان الذي يراه خالياً من المجلس مختلطاً بين أصحابه، وإذا رأوه لم يقوموا لِمَا يعلمون من كراهيته لذلك، وكان يأمر بالجلوس حيث ينتهي المجلس إعراضاً عن الكِبْر اللاحق بالنفس.
لا يترفع على أصحابه حتى يجلس صدر المجلس؛ لتواضعه، وأينما جلس يكون هو صدر المجلس؛ لمزيد حبهم له، وكان مجلسه على صورة الحلقة الواحدة، أو الحِلَق المتداخلة.
وإذا جلس بين قوم في مجلسٍ أعطى كلّ واحد من جلسائه نصيبه وحظه من طلاقة الوجه والبشر والتعليم بحسب ما يليق به، فلا يظن جالسه أن أحداً من أقرانه وأمثاله أكرم عنده -صلى الله عليه وسلم- من نفسه؛ لكمال خلقه، وحسن معاشرته.
مَن جالسه أو أراد مشورة منه، أو كانت له حاجة عنده جلس معه -صلى الله عليه وسلم-، ولا يبادر بالقيام من المجلس، أو يقطع الكلام، ولا يظهر مللاً أو سآمة، بل يستمر الأمر كذلك حتى يكون صاحب الحاجة هو المنصرف عنه، لا الرسول -صلى الله عليه وسلم- وذلك لكمال صبره مع جلسائه.
لا يردّ سؤال مَن سأله حاجة أياً كانت حاجته؛ فإن لم تتيسر حاجته ردَّه بميسور حسنٍ من القول؛ لكمال حيائه ومروءته، ويلاطف كلّ واحد بما يناسبه، فعمَّ الناس طلاقة وجهه، وبشره، وحسن خلقه الكريم حتى صار لأصحابه أباً مشفقاً عليهم يسعى في صلاح ظاهرهم وباطنهم.
مجلسه مجلسُ حلمٍ على غاية التؤدة والسكينة، ومجلس حياءٍ وأدبٍ فكانوا يجلسون معه على غاية من الأدب، وكأنّ على رؤوسهم الطير، فلا يَرفع أحدٌ صوته في مجلسه، ولا يعاب في مجلسه أحدٌ، ويصان مجلسه عن كلّ قولٍ قبيح أو فعلٍ شنيع، ولا تذاع ولا تنشر هفوات مجلسه، ومجلسُ أمانةٍ فتحفظ الأقوال وما في المجلس من أسرار، ومجلس صبرٍ فيصبر على ما يقع من جفوةٍ مِن بعضهم.
لا يتكبر جلساؤه بعضهم على بعض، ولا يفتخرون بحسبٍ أو نسبٍ، ولا يفضل بعضُهم على بعض في مجلسه إلا بالتقوى علماً وعملاً، ويوقر جلساؤه كُبَراءهم، ويشفقون فيه على صِغارهم، ويقدمون صاحب الحاجة على أنفسهم؛ ليقضي حاجته، وإذا جاءهم غريبٌ حفظوا حقه وإكرامه لغربته.
وتفاصيل مجلسه كثيرة، وشواهدها غزيرة، وليس غرضي تفصيلها لأن مقالاً واحداً يضيق عنها، واللمحة تدل كلّ ذي بال.