خرائط ذهنية ..
أحمد بن سالم الفلاحي
shialoom@gmail.com
يتردد كثيرا مصطلح “خارطة طريق” وبعد أن كان مصطلحا سياسيا في أول الأمر؛ من حيث أن الخارطة مرتبطة بالأرض، ارتقى أو توسع إلى استخدامه، فأسقط على المشروعات الإنسانية المختلفة: تنموية، اجتماعية، ثقافية، اقتصادية، بالإضافة إلى حاصنته الأساسية “السياسية” حيث ولد المصطلح، و “خارطة طريق” تعني؛ كما أفهم؛ خطة توضع ببرامجها الصغيرة والكبيرة، لتنفيذها على مراحل قد تطول وقد تقصر، وإنما ألبست الخطط بهذا المصطلح ربما لأنه يثير الانتباه أكثر، ويعلي من سهم الاهتمام به أيضا أكثر، وربما لإدخال مصطلحات جديدة على قاموس اللغة العربية، في ظل التغريب المنتشر على أوسع نطاق؛ والذي بدروه يقطع أوصال هذه اللغة من هنا أو هناك، ويعمق دخول المصطلحات الأجنبية، حيث تستسيغها الناشئة إمعانا في التطور المزهو بمفردة من هنا، وأخرى من هناك، حتى أصبح على أفق مصطلح جديد اسمه “عربلش”.
أذهب هنا إلى مصطلح آخر، تحت مسمى “خرائط ذهنية” وهو مصطلح أقرب الى الأنسنة منه إلى مجموعة الـ “ديناميكيات” التي ترتبط بمصطلح “خارطة طريق”، ذلك أن الذهن حالة إنسانية بحتة، ولأنها كذلك فإنها تعامل كل حالة على حدة، فـ “الخرائط الذهنية” الموجودة عند فلان من الناس، غيرها تلك الموجودة عند فلان آخر، حتى وأن اشترك الاثنان في بيئة اجتماعية واحدة، أو حتى أسرة واحدة، وإن جمعت بينهما بعض الصفات الاجتماعية في تشكيل “الخرائط الذهنية” فلكل واحد منا خرائطه الخاصة، وهذه الخصوصية تأتي من مكونات كثيرة بدءا من الحاضنة الأولى “الأسرة” مرورا بمحاضن التربية المختلفة، وصولا إلى المساحة الأفقية للمجتمع المحيط، فلكل هذه المصادر المعرفية من قيم وموروثات، ومكتسبات شخصية اجتهادية، وقدرات استيعابية مختلفة بين شخص وآخر، تأخذ مساراتها الافقية والرأسية إلى الذهن، وبالتالي فكل هذا الكم الهائل من تدفق المعرفة يأتي تشكيل “الخرائط الذهنية” عند الأنسان، وعلى أساسها يظهر السلوك وتظهر الممارسات وتتمايز بين الأفراد.
ولأن “الخرائط الذهنية” مكتسبات شخصية، استوعبها الذهن وهضمها، فبالتالي ليس من اليسير التنازل عنها في أي لحظة توافقا مع موقف ما، أو تنازلا لأجل خاطر فلان من الناس، نعم قد تحدث هناك مجاملات بين فلان وفلان، ولكن تبقى الصور الذهنية المتشكلة من “الخرائط الذهنية” أثرها الكبير في تحييد المواقف، وفي الانتصار مع مواقف ضد أخرى، وهي ما تؤول في نتائجها إلى حقيقة القناعات الموجودة عند كل شخص على حدة.
وتتشابك هذه المسألة مع مسألة معقدة أخرى يطلق عليها – كما أسمع -مصطلح “غسيل دماغ” وهي الوسيلة المستخدمة في التوظيف السياسي أكثر من غيره، حيث تزال وتمحى “الخرائط الذهنية” من الذاكرة بقوة الوسائل المستخدمة في “غسيل دماغ” ويقال إن الإنسان بعد إجراء هذه العملية عليه، تعود ذاكرته صفحة بيضاء كيوم ولدته أمه، حيث يبدأ من جديد في ملء خرائطه الذهنية بمعلومات جديدة، حيث لم يعد يتذكر عما كان عليه من رصيد معرفي وخبرات شخصية، فقد أذرتها رياح التغيير من أثر عمليات “غسيل دماغ” التي حقن بها طوال فترة التحول.
والمسألة في كلا الحالتين أو الصورتين ليست بتلك البساطة التي نتحدث عنها الآن، ولا يمكن تخيلها بهذا القدر المتواضع في الطرح، فهي عمليات معقدة إلى أبعد الحدود، فـ “الخرائط الذهنية” تحتاج إلى عمر ليس يسيرا حتى تتشكل بالقدر الذي تعطي صاحبها مواقفه الخاصة وقناعاته الخاصة والتي يدافع عنها حتى لو عرضه هذا الدفاع لأن يضحي بنفسه في سبيل قناعاته ومواقفه، والمسألة مرشحة للتعقيد أكثر وأكثر كلما كسب عمرا آخر في الحياة، وبالتالي؛ وهذا ما نعيشه مع كبار السن؛ فقناعاتهم قوية ومتينة، بخلاف قناعات الأصغر سنا، وهكذا تتعزز “الخرائط الذهنية” بطول العمر، وكثرة الخبرات الحياتية.