آخر مشاهد الهزيمة
طه جمعه الشرنوبي – مصر
وقف إلى جانب النافذة يُدخن سجائره وهو ينظر للمارة، يتفقد ملامح الزمن، يرى سنواته فى تلك التجاعيد، ينفُث الدخان فى الهواء، ثم يدير وجهه إلى الطبيب قائلاً :” وأنت هنا، لتخبرنى أنه علي أن أبحث عن حياة، ألتقي فيها هؤلاء العابرون، يكفيني أن أعيش وحيدًا، أن أظل هكذا، فلا بأس بتلك الحياة لمن هو مجرد من الطموح. .! ؛ أنا أشبه من يألفون الموت أكثر..! سيدى، القدر قرر بدلاً مني.! “
توقف الطبيب عن تدوين ملاحظاته، رفع رأسه ونظر إلى الرجل الذي يقف أمام النافذة، وكأنما يبحث عن ثغرة يدخل منها إلى داخله، إلى تلك الزوايا المظلمة من روحه التي لم تصلها الشمس منذ زمن بعيد. قال الطبيب بصوت هادئ:
“أتعلم، السيد محمود، أن العيش وحيداً ليس خياراً بل هو استسلام؟ قد تكون وحيداً الآن، لكن لا بد أنك كنت جزءاً من حكاية يوماً ما، ربما أكثر من حكاية… لماذا لا تحدثني عنها؟”
التفت محمود ببطء، نظر إلى الطبيب نظرة مطولة، وكأنما يقيس صدقه، ثم انحرف بفمه ابتسامة صغيرة ساخرة، وقال:
“الحكايات؟ وهل تعتقد أن الحكايات تنتهي يا سيدي؟ كل ما في الأمر أن الشخصيات تتغير، الأدوار تتبدل، لكن الحكاية؟ تبقى حية، تتكرر، كأنها دائرة لا تعرف التوقف.”
عاد ليتكئ على طرف النافذة، ثم استأنف بصوت أقرب إلى الهمس:
“كنت يوماً ما شخصاً مختلفاً، مليئاً بالأحلام والطموحات. كنت أؤمن أن الحياة تستحق أن تُعاش، وأن السعادة يمكن أن تكون حقيقية، لكن الحياة ليست بهذه البساطة. الحلم، يا دكتور، مثل بيت من ورق، يتهاوى عند أول ريح قوية… والريح جاءتني مبكراً، أسرع مما توقعت.”
نظر الطبيب إليه باهتمام وقال:
“وما الذي حدث؟”
ابتسم محمود بسخرية مريرة، ثم قال:
“حدثت أشياء كثيرة. خسرت أحلامي، خسرت من أحببت، خسرت نفسي. وكل هذا بسبب شيء واحد… الثقة، يا سيدي. عندما تثق بالأشخاص الخطأ، تصبح أنت الخطأ في النهاية. كنت شاباً يافعاً، مؤمناً بالحب، بالتضحية، بالوفاء. أردت أن أغير العالم، لكنني لم أكن أعرف أن العالم هو الذي سيغيرني.”
أشعل سيجارة أخرى، وأخذ منها نفساً عميقاً، ثم تابع:
“عملت جاهداً، ضحيت بكل شيء من أجل أشخاص اعتقدت أنهم سيقفون إلى جانبي، لكنهم، مثل المارة في الشارع، لم يكونوا سوى عابرين في حياتي. يمرون، يأخذون ما يريدون، ثم يرحلون دون حتى أن يلقوا نظرة وداع.”
تقدم الطبيب بخطوات قليلة نحو محمود، وقال بصوت مليء بالتعاطف:
“لكن الحياة، مهما كانت قاسية، لا تزال تمنحنا فرصاً جديدة. ربما خسرت في الماضي، لكن المستقبل… المستقبل دائماً مفتوح أمامنا.”
قهقه محمود قهقهة قصيرة، وقال:
“المستقبل؟ وهل تعتقد أن من هو مثلي يفكر في المستقبل؟ أنا بالكاد أعيش الحاضر، أعيش لأنفث دخاني وأراقب الشارع. كل يوم هو نسخة من الذي قبله. لا جديد، لا تغيير. حتى الألم أصبح عادة، مثل السيجارة التي لا أستطيع الإقلاع عنها.”
توقف لحظة، ثم أضاف بصوت أكثر جدية:
“سيدي، ليس كل من يعيش يبحث عن السعادة. بعضنا يعيش فقط لأنه لا يملك الشجاعة لإنهاء كل شيء. الحياة بالنسبة لي لم تعد سوى عادة. وكما ترى، العادات يصعب التخلص منها.”
نظر الطبيب إليه بحزن، لكنه حاول أن يتمسك بالأمل، وقال:
“لكن، ألا تعتقد أن هناك دائماً أمل؟ ربما لو أعطيت نفسك فرصة أخرى، لو جربت أن…”
قاطعه محمود بحزم:
“الأمل؟ سيدي، الأمل كذبة جميلة نخبرها لأنفسنا لنستمر. أنا أعرف الحقيقة: القدر قرر بدلاً مني. قرر أن أعيش هذه الحياة، أن أكون هذا الشخص. كل ما تبقى لي الآن هو أن أقبل قراره، أن أتعايش معه. فلا فائدة من مقاومة شيء أكبر مني.”
صمت الطبيب للحظات، ثم قال:
“وماذا لو كان لديك الخيار لتغير شيئاً واحداً في حياتك؟ شيء واحد فقط. ما الذي كنت ستغيره؟”
تفاجأ محمود بالسؤال، نظر إلى الطبيب وكأنما يحاول فهم مغزى السؤال، ثم أشاح بنظره مجددًا نحو النافذة، حيث السماء الرمادية تعكس مشاعره. أخذ نفسًا عميقًا من سيجارته، وكأنه يزن الكلمات التي سيقولها. وأخيرًا، قال بصوت خافت:
“شيء واحد؟ ربما كنت سأغير نفسي… الطريقة التي كنت أرى بها العالم، الناس، الحياة. كنت ساذجًا، متفائلًا أكثر مما ينبغي. ظننت أن الحب وحده يكفي، أن الإخلاص يمكن أن يغير كل شيء. لو كنت أعرف حينها ما أعرفه الآن، لما وضعت قلبي بين يدي أحد، لما سلمت أحلامي للريح.”
عاد ليستند بكتفه إلى الحائط، وألقى نظرة خاطفة على الطبيب، الذي كان يصغي باهتمام. تابع محمود حديثه بنبرة أكثر هدوءًا، وكأنه يبوح بسر دفين:
“لكن يا دكتور، حتى لو غيرت شيئًا، فإن القدر دائمًا يجد طريقه. قد تكون القرارات بيدنا، لكن النتائج؟ ليست لنا. أحيانًا أشعر أنني مجرد متفرج على مسرحية كُتبت سطورها مسبقًا. وأنا؟ لست سوى شخصية هامشية.”
ابتسم الطبيب بلطف وقال:
“أفهم شعورك، ولكن ألا تعتقد أن حتى الشخصيات الهامشية يمكن أن تترك أثرًا؟ قد تكون دورًا صغيرًا في هذه المسرحية، لكنك لا تعرف كيف تؤثر كلماتك أو أفعالك على الآخرين.”
تأمل محمود كلمات الطبيب، ثم قال:
“ربما… لكنني سئمت من محاولة التأثير. سئمت من البحث عن معنى لكل شيء. أريد فقط أن أعيش بلا أسئلة، بلا توقعات. أن أراقب المارة، أن أعدّ خطواتهم، أن أعيش يومي وكأنه الأخير.”
عاد الصمت ليسيطر على المكان، بينما ظل محمود والطبيب في حالة من التفكير. كانت هناك هوة بينهما، هوة بين من يحاول التمسك بالأمل ومن فقده تمامًا.
بعد لحظات طويلة، تحدث محمود مجددًا، ولكن هذه المرة بصوت أعمق، وكأن كلماته تنبع من قلبه مباشرة:
“أتعلم، يا دكتور، المشكلة ليست في الحياة بحد ذاتها، بل في الذكريات التي نعيشها. تلك اللحظات التي تبقى عالقة في أذهاننا، تأبى أن ترحل. أنا أعيش مع أشباح الماضي، مع وجوه أحببتها ورحلت، مع أحلام دفنتها بيدي. كيف يمكن للمرء أن يهرب من ذاكرته؟”
أومأ الطبيب برأسه ببطء، وقال:
“لا يمكننا الهروب من ذكرياتنا، لكن يمكننا التعايش معها. يمكننا أن نجعلها جزءًا من قوتنا، لا مصدر ضعفنا. ربما تحتاج فقط إلى تغيير الطريقة التي ترى بها الأمور. الحياة ليست فقط خسائر، هناك مكاسب، حتى لو كانت صغيرة.”
أطفأ محمود سيجارته في المنفضة بجانبه، ثم قال بابتسامة خافتة:
“ربما كلامك صحيح، لكنني تعبت من المحاولة. في النهاية، بعضنا يولد ليكون متفرجًا، لا بطلًا.”
جلس الطبيب على كرسي قريب، وأخذ نفسًا عميقًا، ثم قال:
“لكن حتى المتفرجين يمكنهم تغيير المشهد، إذا أرادوا. الأمر يتوقف عليك، يا محمود. أنت من يقرر.”
كانت تلك الكلمات كجرس يرن في عقل محمود. لم يجب، لكنه ظل صامتًا، ينظر إلى النافذة، يفكر في كلام الطبيب. ربما كانت هناك فرصة، صغيرة، بعيدة، لكنها موجودة.
ظل محمود صامتًا للحظات طويلة، وكأنما يعيد شريط حياته في ذهنه. رفع عينيه مجددًا نحو السماء، حيث بدأت الشمس تغرب خلف الأفق، ملونة المشهد بلون برتقالي خافت. قال بهدوء، دون أن يلتفت نحو الطبيب:
“تعرف يا دكتور، الشيء الوحيد الذي يجعلني أستمر هو هذا المشهد… الغروب. رغم كل شيء، هناك شيء مريح في هذا التكرار. كل يوم تغرب الشمس، وكأنها تخبرني أن النهاية حتمية، لكنها ليست النهاية الأبدية. غدًا، ستشرق من جديد.”
ابتسم الطبيب بخفة وقال:
“الغروب يحمل رسالة، نعم. لكنه ليس النهاية، بل جزء من دورة. مثلنا تمامًا. قد نشعر أننا نقترب من النهاية، لكن هناك دائمًا شروق جديد ينتظرنا، حتى لو كنا لا نراه الآن.”
أدار محمود وجهه للطبيب أخيرًا، تلك الابتسامة الساخرة لا تزال تزين شفتيه، لكنه بدا أكثر تأملًا هذه المرة. قال:
“تبدو واثقًا جدًا، وكأنك لم تفقد يومًا شيئًا أو شخصًا تحبه. أخبرني، هل يمكن للإنسان أن يبدأ من جديد بعد أن فقد كل شيء؟”
ابتسم الطبيب، لكنه هذه المرة لم يكن رد فعله خاليًا من الألم. نظر إلى الأرض للحظة قبل أن يرفع عينيه نحو محمود، وقال:
“صدقني، يا محمود، أنا لست غريبًا عن الفقد. ربما نحن مختلفان في التفاصيل، لكن الألم نفسه. لقد فقدت أشياء كثيرة، أشخاصًا أحببتهم، أحلامًا كنت أراها قريبة، لكنني تعلمت شيئًا: أن الحياة لا تتوقف عند خسارة واحدة أو حتى عشر خسائر. تعلمت أن الألم لا يختفي، لكنه يخفف مع الوقت، ويصبح جزءًا منا، جزءًا من قصتنا.”
ضحك محمود بخفة وقال:
“قصتك تبدو أكثر تفاؤلًا من قصتي، يا دكتور. ربما لديك موهبة تحويل الألم إلى كلمات جميلة، لكنني لست كذلك. أنا فقط… أراقب.”
أخذ محمود سيجارة أخرى، أشعلها ببطء، وكأن كل حركة تحمل معنى. تابع وهو ينفث الدخان:
“تعرف ما المشكلة الحقيقية؟ المشكلة ليست في الحياة نفسها، بل في ما تتركه فينا. كل ذكرى، كل لحظة، تصبح مثل وشم على الروح. لا يمكن محوه. وأنا مليء بتلك الوشوم، كل واحد منها يروي قصة لا أرغب في تذكرها.”
اقترب الطبيب قليلاً، وقال بصوت هادئ لكنه حازم:
“لكن الوشوم، مهما كانت مؤلمة، هي ما يجعلنا من نحن. نحن لسنا مجرد مجموعات من الخسائر. نحن أيضًا من اختياراتنا، من قدرتنا على النهوض مرة أخرى. أنت ترى نفسك الآن كمتفرج، لكنني أرى فيك شيئًا آخر… أرى شخصًا يملك القوة ليعيد كتابة قصته.”
نظر محمود إلى الطبيب نظرة طويلة، وكأنه يحاول أن يجد في ملامحه شيئًا ملموسًا يمكنه التمسك به. وأخيرًا، قال بصوت خافت:
“ربما… لكن الكتابة تحتاج إلى ورقة جديدة. وأنا لا أملك سوى هذه الورقة القديمة الممزقة.”
هز الطبيب رأسه وقال:
“وأنا هنا لأخبرك أن الورقة القديمة يمكن أن تكون بداية جديدة. قد لا يكون سهلاً، وقد لا يكون سريعًا، لكنه ممكن. الخطوة الأولى هي أن تؤمن أن هناك شيئًا يستحق أن تحاول من أجله. شيء صغير، حتى لو كان شروق شمس الغد.”
تنهد محمود بعمق، ثم أطفأ سيجارته مجددًا. التفت نحو النافذة، حيث كان الظلام قد بدأ يغزو السماء، لكنه هذه المرة لم يشعر بالثقل الذي كان يلازمه. ربما كانت كلمات الطبيب مجرد أمل زائف، لكنه وجد نفسه يريد أن يصدقها، ولو لمرة واحدة.
“ربما… فقط ربما. لكن لا تتوقع مني المعجزات، يا دكتور. أنا مجرد رجل عادي، بالكاد يعرف كيف يخطو خطوة واحدة دون أن يعرقل نفسه.”
ابتسم الطبيب، وقال:
“الخطوة الأولى هي دائمًا الأصعب، لكن بمجرد أن تبدأ، ستجد نفسك تسير. تذكر فقط أن الحياة ليست سباقًا، بل رحلة. ولكل منا طريقه الخاص.”
ومع تلك الكلمات، خيم الصمت مجددًا على الغرفة، لكنه لم يكن ذلك الصمت الثقيل المعتاد. كان هناك شيء مختلف هذه المرة، شيء يشبه الخفة، وكأن نافذة صغيرة قد فتحت في جدار محمود.
جلس الرجل بجوار النافذة، ينظر إلى المارة من جديد، لكن هذه المرة، لم يكن يراقبهم بنفس النظرة الخالية من الاهتمام. كان هناك شيء في عينيه، وميض صغير، ربما رغبة دفينة في فهم ما قاله الطبيب… وربما، مجرد ربما، كانت تلك هي بداية رحلته الخاصة.