الأثنين: 6 يناير 2025م - العدد رقم 2375
Adsense
مقالات صحفية

نصائح الأب : عبء الأمس، وكنز اليوم

 

    ناصر بن خميس السويدي

كان هناك شاب اعتاد التذمر من النصائح اليومية التي يلقيها عليه والده بلا كلل أو ملل. كان يشعر وكأن تلك النصائح هي قيود ثقيلة تُقيّد حريته، حتى أنه كره البقاء في المنزل، وأصبح يبحث عن فرصة ليهرب من هذا الروتين المزعج. وفي احدى الأيام، وبينما كان يطالع إحدى الصحف، وجد إعلانًا عن وظيفة شاغرة في شركة مرموقة. قرر التقدم لها، وأخبر والده عن نيته.

وكعادته، بدأ والده يسدي له النصائح: “انتبه لتصرفاتك، لا تتأخر، ولا تغفل التفاصيل البسيطة. هذه الأشياء الصغيرة هي التي تميز الشخص الناجح”. كان الشاب مستاءً، وفكر في نفسه: “حتى هذه اللحظة، لن يتركني من نصائحه!”.

قبل خروجه، وضع الأب يده على كتف ابنه وقال بهدوء: “الله يوفقك يا بني. أنا أثق بك”. تلك الكلمات كانت مفاجئة للشاب؛ فشعر بشيء من الدفء في قلبه رغم استياءه السابق.

وصل الشاب إلى مقر الشركة ورأى عددًا كبيرًا من المتقدمين ينتظرون دورهم. وقبل أن يدخل، لاحظ صنبور ماء ينقط في جانب الحديقة. تذكر نصيحة والده التي تحثه على الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة، فتوجه وأغلق الصنبور. وقبل أن يصل إلى الباب، رأى كشافًا مضاءً في وضح النهار فتقدم وأطفأه، ثم دخل المبنى.

جلس مع بقية المتقدمين وكان يشعر بالارتباك. فقد كان الجميع يناقشون موضوعات اقتصادية معقدة وخبراتهم الطويلة، بينما هو بالكاد أنهى المرحلة الثانوية. لكنه ظل جالسًا ينتظر دوره بهدوء.

أخيرًا، نودي على اسمه، ودخل غرفة المقابلة وهو يتوقع الأسوأ. جلس أمام لجنة المقابلة مستعدًا للتبرير عن قلة خبرته، لكن المفاجأة الكبرى كانت عندما قال أحد أعضاء اللجنة: “تهانينا! غدًا أحضر أوراقك وصورك الشخصية”.

صُدم الشاب وسأل: “لكن… لماذا؟ لم أتحدث بعد!”

ابتسم أحد المقابِلين وأشار إلى الشاشة خلفه قائلاً: “قبل دخول المتقدمين، وضعنا اختبارًا عمليًا بسيطًا لقياس رؤيتهم الاقتصادية ونظرتهم للتفاصيل. كنت الوحيد الذي أظهر تلك الفطنة. أغلقت صنبور الماء الذي كان يستهلك بلا فائدة، وأطفأت الكشاف المضىء في النهار. هذه التصرفات البسيطة أظهرت وعيك بأهمية الموارد والتفاصيل الصغيرة. هذه هي المهارات التي نبحث عنها”.

تجمد الشاب في مكانه، وامتلأت عينيه بالدموع. تذكر نصائح والده التي كانت تبدو له ثقيلة ومزعجة. أدرك في تلك اللحظة أنها كانت المفتاح لتلك الفرصة الذهبية. عاد إلى المنزل بعينين دامعتين وقلب ممتلئ بالامتنان. عندما رأى والده، عانقه قائلاً: “آسف يا أبي، كنت أعتقد أن نصائحك عبء، لكنها كانت أعظم كنز منحني الله إياه.”

استقبل الأب عناق ابنه بحب وحنان، وربت على كتفه بابتسامة هادئة، قائلاً: “يا بني، ما كنت أنصحك إلا لأنني أريدك أن تكون أفضل مني، وأرى نجاحك يكبر أمام عيني. ها قد بدأت طريقك الصحيح، واعلم أن الحكمة تكمن في التفاصيل الصغيرة التي قد يتجاهلها الناس”.

في اليوم التالي، جهز الشاب أوراقه، وذهب إلى الشركة ليبدأ مرحلة جديدة في حياته. كان العمل مليئًا بالتحديات، لكنه ظل يتذكر كلمات والده ويرددها في نفسه كلما واجه مشكلة أو عقبة. مع مرور الوقت، أصبح نموذجًا يُحتذى به داخل الشركة بفضل تفانيه واهتمامه بكل التفاصيل التي تمر أمامه، حتى تم ترشيحه لتولي منصب إداري كبير خلال فترة قياسية.

في كل مرة يحقق إنجازًا جديدًا، كان يعود إلى المنزل ليشارك والده الخبر السعيد. ذات يوم، وأثناء جلوسهما معًا في فناء المنزل، قال الابن: “يا أبي، أتذكر عندما كنت أغلق أذني عن نصائحك؟ اليوم أصبحت أحث زملائي على الإصغاء إلى كل كلمة من أصحاب الخبرة، فقد كانت كلماتك سببًا في تغير حياتي”.

ابتسم الأب، وربت على يده قائلاً: “أنت فخري يا بني، وتذكر دائمًا أن من يستمع ويتعلم يصبح قائدًا يومًا ما”.

وهكذا، أدرك الشاب أن الحياة مليئة بالدروس التي نأخذها ممن حولنا، وأن النصيحة التي تبدو مزعجة قد تكون مفتاحًا يفتح لنا أبواب النجاح. وظلت تلك اللحظة محطة رئيسية في حياته، جعلته ممتنًا لكل كلمة قالها والده، ولكل عقبة تخطاها بفضلها.

مرت السنوات، وأصبح الشاب نموذجًا للنجاح والتفاني في عمله؛ مما جعله واحدًا من أبرز الشخصيات في مجاله. لم يكن ينسى جذوره ولا النصائح التي كانت تبدو له عبئًا في شبابه؛ بل أصبح ينقل تلك الحكم والخبرات لمن حوله، موظفًا ومنسقًا برامج تدريبية للشباب الجدد في شركته، لتعليمهم أهمية الانتباه إلى التفاصيل الصغيرة التي تميز الشخص الناجح.

وذات يوم، دُعي إلى مؤتمر كبير كرجل أعمال بارز ليلقي كلمة عن تجربته. وقف أمام الحضور وقال:

“عندما كنت شابًا، لم أدرك قيمة النصائح التي كان والدي يكررها على مسامعي يوميًا. كنت أراها كحمل ثقيل وقيود تكبح حريتي. لكنني تعلمت أن تلك النصائح لم تكن عبثًا، بل كانت درسًا يسبق خطوات النجاح. إنّ أبسط الأفعال التي قمت بها، كإغلاق صنبور ماء أو إطفاء كشاف بلا فائدة، كانت السبب في أن أحصل على فرصة العمر. هذه الدروس التي علمتني الانتباه إلى التفاصيل الصغيرة غيّرت حياتي. واليوم، أنا مدين لوالدي الذي علمني أن كل خطوة لها معنى وكل تفصيل صغير يساهم في بناء نجاح كبير”.

كانت الكلمة مؤثرة، وكسبت تصفيقًا حارًا من الجميع، لكنها لم تكن مجرد خطاب رسمي بالنسبة إليه؛ بل كانت رسالة شكر وامتنان موجهة لوالده، الذي جلس في الصفوف الأمامية بعينين تلمعان من الفخر.

بعد انتهاء المؤتمر، عاد الشاب إلى والده وقبّل يده، قائلاً: “كل ما أنا عليه اليوم هو بفضل الله، ثم نصائحك التي كانت أعظم دروس حياتي. سامحني إن ضايقتك يومًا بتذمري”.

رد الأب بصوت مليء بالحنان: “ما يفرحني حقًا يا بني هو أن أراك تحقق ما حلمت به، وأنك عرفت قيمة ما كنت أقوله لك. النجاح لا يأتي وحده، بل يحتاج لأساس متين، وقد بنيته بنفسك”.

ظل هذا الدرس خالدًا في قلب الشاب، وأصبح ملهمًا لأجيال عديدة، ينقل لهم الحكمة التي تعلمها من والده؛ ليصبح ما بدأ كاحتجاجٍ يومي قصة نجاح تُروى بفخر.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights