براءة طفلة تُعلّمنا دروس في الاحترام
ناصر بن خميس السويدي
شدّني مشهد مؤثر لطفلة صغيرة تدفع كرسي والدها من ذوي الاحتياجات الخاصة، وهي تقطع الشارع عند خطوط المارة. كان المشهد بحد ذاته مفعمًا بالجمال الإنساني، لكن ما أدهشني حقًا هو تصرف الطفلة مع قائدي المركبات المتوقفة بانتظار مرورها. وسط صخب المدينة وضجيجها، كانت تنحني باحترام بالغ لكل سائق واحدًا تلو الآخر، بابتسامة صغيرة ترتسم على وجهها، وكأنها تقول لهم دون كلمات: “شكرًا لذوقكم”.
هذا الموقف البسيط يحمل في طياته معاني كبيرة: الاحترام، الامتنان، والتربية الصالحة التي تُغرس في النفوس منذ الصغر. إنها صورة لا تقتصر على لحظة عابرة، بل تحمل رسالة أعمق عن القيم التي يجب أن تسود بين الناس، خاصة في عالم أصبح فيه التسارع والمادية يطغيان على العلاقات الإنسانية.
تلك الطفلة الصغيرة لم تمر فقط بالشارع؛ بل مرّت أيضًا بقلوبنا، تُحيي فينا الأمل بأن الأجيال القادمة قد تصنع فارقًا، لو بُنيت على أسس متينة من الاحترام والتقدير.
توقفت لوهلة أتأمل المشهد بعين مندهشة، وكأن الزمن تباطأ ليتيح لي الفرصة لاستيعاب كل التفاصيل: خطوات الطفلة الواثقة، نظراتها المليئة بالمسؤولية، وانحناءاتها التي تُلقي درسًا حيًّا لكل من يشاهد. شعرت وكأنها تُقدم عرضًا مسرحيًا صامتًا، بطله قيم الإنسانية النقية.
حينما وصلت إلى الجانب الآخر من الشارع، التفتت الطفلة كأنها تتأكد من أن والدها بخير، ثم أكملت طريقها دون أن تبالي بما خلفت وراءها من دهشة وابتسامات على وجوه السائقين والمارة. وكأن ما فعلته أمر بديهي بالنسبة لها، جزء من يومها العادي، لكنها لم تدرك أنها صارت بطلة صغيرة في أعين الجميع.
هذا الموقف يجعلنا نتساءل: كم من القيم العظيمة تُنسى وسط زحمة الحياة؟ وكم من طفل قد يكون معلمًا لنا دون أن يدري؟ تلك الطفلة لم تكن مجرد شخص عابر في المشهد، بل كانت رسالة تمشي على قدمين، تقول لنا ببراءة الطفولة: العالم مكان أفضل عندما نعطي الاحترام ونقدّر الآخرين.
لم أتمالك نفسي حين رأيت هذا المشهد، فتبادر إلى ذهني سؤال: من هي هذه الطفلة؟ ومن غرست فيها تلك القيم الراقية؟ لابد أن وراءها أهلًا جعلوا الاحترام جزءًا من نسيج حياتها، أو مواقف علمتها أن التصرفات الصغيرة قد تترك أثرًا كبيرًا.
وفي تلك اللحظة، وكأن المشهد بأكمله خُتم برسالة غير مرئية، نظرتُ إلى السائقين الذين بدوا متأثرين أيضًا؛ أحدهم أومأ برأسه احترامًا لها، وآخر أشاح بنظره للحظة كأنه يكبت شعورًا غريبًا بالكلام الذي لم ينطق به. أما أحد المارة، فقد أخرج هاتفه والتقط صورة، ربما ليست فقط لتوثيق اللحظة، بل لتذكير نفسه بأن في عالمنا ضوءًا لا يزول مهما بدا الواقع مظلمًا.
وهكذا، مضت الطفلة ووالدها في طريقهما، لكن المشهد ظل معي، وكأنه نقش في الذاكرة لا يُمحى. أخذت أراجع نفسي في أمور صغيرة كدت أعتبرها منسية: متى كانت آخر مرة انحنيتُ فيها شكرًا لشخص ساعدني؟ متى قدّرت سائقًا أفسح لي الطريق؟
تلك الطفلة، دون أن تعرف، أعادت صياغة تفاصيل عابرة إلى قيم عظيمة… جعلتنا جميعًا نعيد التفكير ليس فقط في أفعالنا اليومية، بل في الأساس الذي نغرسه في أبنائنا. ربما كان الطريق مزدحمًا ذلك اليوم، لكنه بالتأكيد حمل قيمة عظيمة عبرت الطريق معنا.