الأثنين: 6 يناير 2025م - العدد رقم 2375
Adsense
مقالات صحفية

الهوية الثقافية : بين التمسك بالأصالة والانفتاح على التغيير

   خلف بن سليمان البحري

   في عالم يمضي نحو التغيير بوتيرة متسارعة، تبدو الهوية الثقافية كصخرة صلبة تواجه تيارات لا تتوقف، تلك الهوية التي تتجاوز كونها مجرد ماضٍ محفوظ في الكتب، لتصبح نبضًا يعيش في الحاضر ويتجه نحو المستقبل، إنها الخيط الذي يربطنا بجذورنا، والضوء الذي يوجهنا في ظلمات التغيير ولكن، في ظل هذا الزخم العالمي، كيف يمكن الحفاظ على ملامح الهوية دون أن تذوب في عالم أصبح أشبه بقرية صغيرة؟

منذ أن بدأت العولمة تُلقي بظلالها، لم تكن مجرد فرصة للتواصل أو نافذة للتطور، لقد جاءت محملة بتحديات جذرية، إذ بدأت الثقافات المحلية تواجه خطر الانسحاب أو الذوبان أمام ثقافات مهيمنة، العادات التي كانت يومًا جزءًا لا يتجزأ من حياة المجتمعات باتت شيئًا نادرًا، والتقاليد التي ورثناها عن أجدادنا أصبحت مهددة بالانقراض في خضم هذه التحديات، يبرز السؤال: هل يمكننا أن نعيش الحداثة دون أن نتخلى عن أصالتنا؟

الحل يكمن في التوازن، ليس المطلوب أن نغلق أبوابنا أمام العالم، بل أن نفتحها بحكمة. الأصالة ليست عائقًا أمام التقدم، بل الأساس الذي يُبنى عليه التطور الحقيقي، فمن غير المعقول أن نمد أيدينا للعالم لنأخذ منه، ثم ننسى ما نحمله في داخلنا من تراث وقيم.

   إن الحفاظ على الهوية الثقافية يبدأ من الوعي، الوعي بأهميتها في تشكيل ملامحنا، والوعي بدورها في إلهام الأجيال القادمة، وهذا الوعي لا يُغرس في الفراغ، بل يحتاج إلى جهود تبدأ من الأسرة وتمتد إلى التعليم والمجتمع، فالأسرة هي الحضن الأول الذي يغرس القيم، والتعليم هو الأداة التي تجعل هذه القيم راسخة في النفوس، فعندما يتعلم الأطفال عن تراثهم، وعندما يُدرّسون تاريخهم بلغة تحمل الفخر، فإنهم يكبرون ليصبحوا حماة للهوية، لا عابرين بلا انتماء.

لكن التعليم وحده لا يكفي، فالأفراد أنفسهم يحملون على عاتقهم مسؤولية الحفاظ على هويتهم في كل خطوة، في كل كلمة، وفي كل تصرف، تظهر ملامح الهوية، إنها ليست شيئًا نلبسه حين نشاء ونخلعه حينما تقتضي الظروف، بل هي جزء لا يتجزأ من شخصيتنا، وهي التي تمنحنا التميز في عالم يميل للتشابه.

الثقافة ليست مجرد إرث نتحدث عنه، بل هي حياة تُعاش، إنها كالشجرة التي تمتد جذورها في أعماق الأرض، بينما تتطلع أغصانها نحو السماء، كلما كانت الجذور أقوى، استطاعت الشجرة أن تصمد في وجه الرياح العاتية لكن، إذا أهملت تلك الجذور، فلا عجب أن تذبل الأغصان وتجف الثمار.

  في النهاية، الهوية الثقافية ليست ملكًا لجيل واحد، بل أمانة تتناقلها الأجيال، كل ما نفعله اليوم، وكل قرار نتخذه بشأن ثقافتنا، سيترك أثره على المستقبل، فالحفاظ على الهوية ليس خيارًا، بل واجب، إنه تعبير عن حبنا لتراثنا، واحترامنا لأجدادنا، وإيماننا بأن المستقبل لا يمكن أن يُبنى إلا على أسس متينة.

 إن العالم اليوم بحاجة إلى شعوب تعرف من تكون، وتفخر بما تملكه، وتقدم للعالم ما يثريه، لا ما ينسلخ عن جذوره. فلنكن جميعًا سفراء لهويتنا، ولنثبت أن الثقافة ليست مجرد كلمات تُقال، بل نبض يعيشه كل من يؤمن بجمال انتمائه.

 

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights