دمية أُمي.!
طه جمعه الشرنوبي – مصر
سيدي، أنا أشبه طفل ناجٍ من آثار الحرب وفى يده دمية أهدتها له “الأم” ليلة الميلاد؛ قائلة:” إذهب للإحتفال يا صغيري ولا تعُد إلى هنا مجددًا…! “؛ خيّم الصمت للحظات وكأنها وجهت لي سؤال عليّ أن أعرف إجابته، لكن ليس عليّ الجواب عليه…!
أخذت الدمية وخرجت أبحث عن الأصدقاء، وبدأ العالم بالاحتفال فى سماء المدينة النائية بالبارود؛ ما زلتُ أحتفظ بالدمية التي أهدتها لي أمي، وأمسك بها أكثر كلما تعالت أصوات الصراخ، وكلما امتد لي القلق أقول:”أمي لم أكن أنوي الإحتفال هكذا “
عندما بدأت الأقدام تخطو بعيدًا عن أطلال البيت القديم، شعرت بشيء يثقل صدري. ليس فقط الذكريات، وإنما ذلك العبء الذي أحمله في يدي الصغيرة، “دمية أمي”. كم كانت تلك الدمية شاهدة على تفاصيل لن تُمحى. تفاصيل لم يروِها الزمن إلا لي وحدي.
بدأت أتجوّل في شوارع المدينة النائية، التي فقدت كل ملامحها. البيوت أصبحت أنقاضًا، والساحات التي كانت تضج بالحياة أصبحت مرتعًا للصمت. أما الشوارع، فقد احتلها الغبار، وكأنها تئن تحت وطأة ثقل ما حدث.
كنت أتلمّس طريقي بين الركام، أبحث عن شيء يشبه الحياة. أبحث عن أصدقاء، كما طلبت مني أمي؛ لكنني لم أجد سوى بقايا أحذية مهترئة، وقطع لعب مكسورة، وكأن الجميع اختفوا، أو ربما تبخروا في الهواء الذي ما زال مشبعًا برائحة البارود.
تذكرت كلمات أمي، “إذهب للاحتفال، ولا تعد إلى هنا مجددًا.” لكن كيف يمكنني الاحتفال؟ أين الاحتفال أصلًا؟ وكلما سمعت صراخًا أو دويًا، كنت أقبض على الدمية بقوة، وكأنها الحبل الذي يربطني بما تبقى من أمي.
رأيت على جانب الطريق مرآة محطمة، اقتربت منها ورفعت الدمية أمامي. كان انعكاسي مشوهًا، وجهي مليء بالغبار، وملامحي فقدت براءتها. أمعنت النظر في عينيّ، لم أعد أعرف نفسي. من هذا الطفل الذي يحدّق بي؟
فجأة، انطلق صوت طائرة في السماء، وصوتها يشبه النذير. كان الناس قد اعتادوا على أصوات الانفجارات، لكنني شعرت أن هذه المرة مختلفة. كأن العالم ينهار للمرة الثانية.
ركضت إلى أقرب زقاق، اختبأت تحت درج حجري، احتضنت الدمية بقوة، وكأنها حبل نجاتي الوحيد. بدأت أسترجع ملامح أمي في ذهني، صوتها، دفء كلماتها. حاولت أن أتمسك بها، لكن الذاكرة خانتني. حتى ملامحها بدأت تتلاشى.
بينما كنت مختبئًا تحت الدرج، لم أسمع سوى صوت أنفاسي المتقطعة. شعرت بالبرد يزحف إلى أطرافي، ورائحة الغبار تغمر أنفي. كل شيء حولي كان يوحي بنهاية العالم.
لكنّ صوتًا خافتًا كسر ذلك الصمت الموحش. كان صوت طفل يبكي. انتفض قلبي، هل يمكن أن يكون هناك ناجٍ مثلي؟ خرجت بحذر من مخبئي، وبدأت أتبع الصوت.
كان الصوت يأتي من بين الركام. زحفت نحو مصدره، ووجدت طفلاً صغيرًا، أصغر مني، يختبئ خلف لوح خشبي مكسور. عيناه كانتا غارقتين في الدموع، لكنه ظل صامتًا حين رآني. اقتربت منه بهدوء، رفعت الدمية أمامه، وقلت:
“إنها دميتي، أمي أعطتني إياها. تريد أن نمسك بها عندما نخاف.”
نظر إلى الدمية بعينين فارغتين، وكأن روحه غادرت جسده. ثم فجأة، مد يده وأمسك بالدمية. لم يقل شيئًا، لكنه بدأ يهدأ.
جلست بجانبه، وكلانا صامت. كان من الصعب الحديث عندما يكون كل شيء من حولك يتحدث عن الموت.
بدأت أفكر في أمي مجددًا، في كلماتها. ماذا كانت تقصد عندما قالت “لا تعد مجددًا”؟ هل كانت تعرف أنني لن أجد طريق العودة؟ هل كانت تعلم أن هذا العالم الجديد سيكون فارغًا؟
لكنني لم أشأ التفكير كثيرًا. كنت أريد أن أحمي الطفل الذي وجدته. أمسكت بيده، وقلت له:
“علينا أن نبحث عن مكان نختبئ فيه. هذا المكان ليس آمنًا.”
نهضنا معًا، وتحركنا ببطء بين الأنقاض. كل خطوة كانت ثقيلة، لكنها كانت ضرورية. كنت أشعر أنني المسؤول عنه الآن، تمامًا كما كنت مسؤولًا عن دميتي.
مررنا بالقرب من مدرسة مدمرة. كانت هناك سبورة مائلة على الأرض، وعليها كتابة بخط طفل صغير: “متى تنتهي الحرب؟”
قرأت الجملة بصوت منخفض، شعرت أنها تسألني أنا. لكنني لم أكن أملك الإجابة.
تابعنا طريقنا حتى وجدنا قبوًا صغيرًا تحت أحد المنازل المنهارة. دخلنا إليه، وأشعلت شمعة وجدتها في زاوية الغرفة. كان القبو ضيقًا، لكنّه دافئ مقارنة بالخارج. جلسنا هناك، أنا والطفل، والدمية بيننا.
حاولت أن أتحدث معه. قلت له:
“ما اسمك؟”
لكنه لم يجب. بدا وكأنه فقد القدرة على النطق. ربما كان الصمت لغته الوحيدة الآن.
بدأت أحكي له عن أمي، عن الليلة التي أعطتني فيها الدمية. كنت أتكلم ليس لأجله فقط، بل لأجل نفسي أيضًا. كنت بحاجة لأن أسمع صوتي، كي أؤكد لنفسي أنني ما زلت على قيد الحياة.
عندما انتهيت من الحديث، رفعت رأسي ورأيته يبتسم. كانت تلك الابتسامة صغيرة، لكنها كانت كافية لتمنحني أملًا.
ظل الطفل يحدق في الدمية وكأنها أصبحت جزءًا من روحه، ثم مد يده الصغيرة ولمس وجهي بحذر. شعرت بتلك اللمسة وكأنها محاولة للبحث عن الأمان وسط الخراب.
همس بصوت ضعيف جدًا:
“اسمها ليلى…”
تجمدت للحظة. لم أكن متأكدًا مما يقصده. هل يقصد الدمية؟ أم شخصًا آخر؟ سألته برفق:
“من هي ليلى؟”
ابتسم ابتسامة غامضة وقال:
“كانت أختي. كانت تحب الدمى.”
ابتسمت بدوري، رغم أن قلبي كان يغرق في الحزن. شعرت بأننا نتشارك شيئًا عميقًا، شيئًا يتجاوز الكلمات.
بدأ الليل يزحف على القبو. كان البرد يزداد، لكننا تقاربنا أكثر، وكأن دفء وجودنا معًا كان كافيًا لصد قسوة الليل.
سألته فجأة:
“أين أهلك؟”
نظر إليّ بعينين مثقلتين بالألم، ولم يجب. كان صمته كافيًا لأفهم أنه مثلي، وحيد يحمل ذاكرته فقط.
حين بدأ النوم يتسلل إلينا، قررت أن أبقى يقظًا. شعرت أنني مسؤول عن حماية هذا الطفل الصغير. لكن عقلي بدأ يغرق في دوامة الأفكار. كنت أفكر في أمي، في تلك الليلة التي أعطتني فيها الدمية.
هل كانت تعلم أن هذا سيكون الوداع؟ هل كانت كلماتها وصية أخيرة؟
في تلك اللحظة، سمعت صوتًا بالخارج. كان أشبه بخطوات. انتفضت بسرعة وأمسكت بالدمية بيد، وبالطفل بيدي الأخرى.
ظللت أنظر نحو مدخل القبو بحذر، حتى ظهر رجل عجوز يحمل مصباحًا صغيرًا. كانت ملامحه قاسية لكنها لم توحِ بالخطر.
قال بصوت عميق:
“لا تخافا، أنا هنا للمساعدة.”
لم أصدق كلماته فورًا. العالم أصبح مكانًا لا يمكن الوثوق به. لكن الطفل الصغير ركض نحوه، وكأنه وجد في وجهه شيئًا يذكره بالدفء الذي فقده.
ابتسم الرجل وقال لي:
“تعال، هناك مكان آمن.”
ترددت للحظة، لكنني شعرت أنني لم أعد أملك خيارًا. نهضت وحملت الدمية بإحكام، وبدأت أتبع الرجل والطفل.
قادنا إلى مكان تحت الأرض، ربما كان ملجأ قديمًا. هناك وجدت مجموعة من الأطفال والنساء، كلهم يحملون ذات التعب في عيونهم.
جلسنا بينهم، والطفل الصغير لم يترك يدي. شعرت لأول مرة منذ وقت طويل بأنني لست وحدي.
بينما كنت أراقب الجميع، أدركت أن الحرب لم تسرقنا بالكامل. ما زال هناك شيء حي فينا، شيء يقاوم.
نظرت إلى الدمية في يدي، ثم إلى الطفل بجانبي، وقلت بهدوء:
“أمي، لم أكن أنوي الاحتفال هكذا… لكنني أعدك أنني سأبقى”