من خفايا الذاكرة (دروس في تحفيظ القرآن الكريم)
د. حميد أبو شفيق الكناني
حافظ للقرآن الكريم ونهج البلاغة والمعلقات السبع.
أبحث اليوم حول موضوع النسبية في ميزان المحفوظات.
يعيش حفظة القرآن الكريم في سباق مع الزمن، لأن مرحلة الشباب هي الفترة الذهبية لحفظ آيات الذكر الحكيم، فالتعلم في الصغر كالنقش على الحجر، وعلى المرء أن يغتنم شبابه قبل هرمه وصحته قبل سقمه، ومع كل هذه الشروط لا ينبغي على الحافظ أن يفكر في تحطيم الرقم القياسي في مدة حفظ كتاب الله؛ وبناء على ذلك تلعب النسبية بين الحافظات والحافظين دوراً مهماً في برمجيات كل واحد منهم، فهناك من يحفظ كل القرآن الكريم حسب المنهجية الموضوعة وغيره من يتوقف عند منتصف الطريق ثم يكمل المشوار، وسواهم من يحفظ في فترات متباعدة حتى يتم الله نعمته.
هذا من ناحية الزمان، أما من ناحية السور والآيات فإن النسبية لها تأثير كبير في تنظيم مسيرة الحفظ.
حيث يمكن تقسيم السور و الآيات إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول؛ هو من محفوظات الناس ولا يحتاج سوى مرور بسيط كمسحة لإثارة دفائن الذاكرة واستعادة المنسيات، مثل الجزء الثلاثين وبعض السور القصيرة؛ كسورة الواقعة، وسورة يس، ومعظم سورة مريم، ومعظم سورة يوسف، ومعظم سورة الرحمن.
والقسم الثاني: هي السور والآيات التي يكثر ترديدها في المناسبات وغير المناسبات بسبب شهرة السورة، مثل معظم سورة البقرة، ومعظم الجزء الثامن والعشرين؛ كسورة الصف، وسورة الجمعة، ومعظم الجزء التاسع والعشرين؛ كسورة الملك، وسور المزمل، والمدثر، والقيامة.
والقسم الثالث: هي السور والآيات التي لا نسمعها إلا في المناسبات الخاصة ولا نقرأها إلا عن قصد ونية منا. على سبيل المثال لا الحصر؛ آيات الأحكام في الجزء الثاني، وآيات الأحكام في بداية سورة النساء.
وأحياناً نجد النسبية في السورة نفسها، مثل؛ بداية سورة الحشر، والآيات غير المشهورة، ونهاية السورة نفسها، والآيات التي يعرفها الصغار والكبار.
إذن فالآيات المشهورة تحتاج إلى مدة أقل وسواها يتطلب مدة أطول، وعلى الحافظ أن يراعي هذه النقطة حتى يوفر على نفسه الجهد الجهيد ويبذله في حفظ الآيات غير المشهورة.
وبصورة عامة، يمكن أن نقارن بين سور الجزء الثالث والعشرين، حيث يبدأ الجزء بسورة يس المشهورة بقلب القرآن تليها سورة الصافات الغائبة عن الأسماع والأبصار، وكذلك بداية السورة التالية سورة ص ثم تعطف السورة على قصص الأنبياء على المشهورة حتى النهاية، بعدها تبدأ سورة الزمر في آيات سهلة الحفظ وطويلة نسبياً، وينتهي الجزء حتى منتصف السورة تقريباً عند الآية الثلاثين.
وبناء على ذلك؛ يحتم علينا قانون النسبية أن ندخل جميعاً وأن نخرج أشتاتاً.
ألفاظنا شتى وحسنك واحد
وكل إلى ذاك الجمال يشير.
وصايا شتى:
ختامه مسك، ومسك الختام. تحيتي فيها سلام، وأمن وسكينة، وأمان وطمأنينة مدى الليالي والأيام؛ فالأمن الداخلي تقوية للذاكرة، وترويض للفاعلية، وتنشيط للدوام.
ويبقى الحافظ في سباق مع الزمن، لا تهدأ له هوادة من مناخ الركاب إلى محط الرحال، حيث نهاية المطاف وختم القرآن الكريم.
فعليه أن يسعى طالما كان العمر مبكراً، يسعى على مهل ولكن دون كلل؛ حتى يحظى بخزين المحفوظات ويظفر بما حوى من تجربة تكون له سنداً في استعادة المنسيات وترسيخ المعلومات.
ولا يعجل إذا ضاق الوقت، ولا يأسف لحادث حدث، ولا يقارن نفسه بمواسم حصاد الآخرين؛ فالأمل يمسح الملل ويطرد الفشل.
وعلى الحافظات والحافظين أن لا يكتفوا بالدراسة والتوجيه والإرشاد، بل عليهم أن يعيشوا ويتعايشوا مع السورة والآية ومع الجملة والمفردة، والغاية من ذلك تنشيط البداهة، فكلما كان الحافظ بديهياً في الاستحضار كان عفوياً في التلاوة عن ظهر قلب.
وقل اعملوا، فالعمل يقتل الوجل ويطرد الكسل، وزيادة الممارسة تقرب البعيد وتقلل الكثير؛ إذ تختزل الزمن لدى الحافظ، بعدما تتحول المسافة الشهرية لتكرار جزء واحد على سبيل المثال إلى عادة يومية، ولا داعي للعجلة؛ لأن فيها تصنع وتكلف وتحميل وتعسف.
ويمر العمر
على مهل
على ملل
على أمل.