الحمولة الدلالية للألفاظ
سعد بن فايز المحيجري
الكلمةُ هُوِيَّةُ صاحبها تحمل رسالته في طيّاتها وتنقل عنه ما آثر كتابته على التلفّظ به وأراد تخليده في أحرفٍ متراصة… شيماء علي جمال الدين
قبل بضعة أسابيع، دار نقاش بين مجموعة من كتّاب صحيفة النبأ الإلكترونية حول لفظة (اللصوص)، وكيف وظّفها صاحب المقال في سياق معيّن، لكنها تخطّتْ المعنى الذي أراده لها- حسب وجهة نظر كاتب آخر- لم يخطئ كلاهما فيما ذهب إليه، فصاحب المقال كان له توجهه الفكري الثقافي حين أوردها في ذاك السياق، وأشرك الطاقة العاطفيّة للفظة في التسيير الدلالي لها، أمّا المعقِّب عليه فقد أثارته الحمولة الثقافية التي تعاقبت عليه من استعمال اللفظة عبر سياقات متباينة، تراكمت من خلال خبرته في قراءاته طوال سنين حياته، وقد أسهمت الكثير من العادات والأفكار والمواقف والسياقات في توجيهها إلى تلك الدلالة التي وصل إليها في النهاية، مغلبًا الطاقة العقليّة للكلمة في توجيه الدلالة.
إن استعمال الألفاظ في أحاديثنا وكتاباتنا لا يجب أن يكون عشوائيًا وملءَ فراغٍ، ولا يمكن أن نُلقي باللفظة دون أن ندرك ما تنسجه من خيوط ثقافية ودينية واجتماعية؛ لأنها تمثل جزءًا من تكويننا الثقافي والفكري، وتتحكم بدرجة لا يمكن تخيّلها في توجيه الدلالات عبر المقامات والمواقف الحياتية التي نتعرّض لها، وللألفاظ قوة تتجاوز الآذان لتستقر في الأذهان وتأوي إلى الوجدان، وقد يكون من الوضوح أن أذكر أمثلة على ألفاظٍ لها حمولات ثقافية فكرية، وقد تكون تلك الألفاظ ثقيلة بما تحمله من الوزن الفكري والإرث الحضاري أو العمق الديني، حتى تصل لدرجة أن تمثّل هوية أمة أو شعب. ألا ترى فرقًا في الدلالة وأنت تكتب في القضيّة الفلسطينية أن تعمَد إلى استعمال لفظة جندي بدل مجاهد؟! وأن تختزل الهالة الدلالية الدينية التي تبوح بها كلمة الشهداء في كلمة الضحايا!! بقطع النظر عن ملابسات الظروف والأحوال المقامية التي تصاحب استعمالك لتلك المفردات، سواء أكانت صحيحة أم خاطئة. ومن هذا المنطلق توظّف الدولُ اللغةَ في كثير من الأحيان-على المستويين المحلي والخارجي- توظيفًا يعمل على تأطير الأفكار الإنسانية في سياق معيّن، يُمكنها بوساطته أن توّجهه وتُهيمن عليه في الظروف التي تستدعي ذلك، وتضعه في زوايا مخصوصة عبر ألفاظ مقصودة دون غيرها، فيتخلّى عن إرثه الذي حوته لغته، فيغدو واهنًا، لا يروم معالجة الأفكار ودقائق الأمور، وبطبيعة الحال لا يُدرك ذلك إلّا من فَقِه اللغة.
أخي الكاتب، إنّ اللفظة التي تختارها لتتجول بين ثنايا سطورك، تنثر أبعادها الدلالية المُكتنِزة بجملة أفكارك وتوجّهاتك في ذهن المتلقي، شئت أم أبيت، فمن الخطرِ إذن ألّا نتفطّنَ إلى قوّة السلاح الذي نمتلكه، وألّا نعلم طريقة توجيهه إلى الزاوية المناسبة، بالطريقة الصحيحة، فانتقاء اللفظ ليست العملية الوحيدة التي عليك الانتباه إليها، فالسياق الذي توردها فيه أيضًا، يعمل على توجيه الدلالة لمعنى قد لا ترغب في إبلاغه المتلقي، ولن تتوقع أبدًا أن تلك المقاصد قد تصل إلى ذهنه. فكنْ مدركًا لقوة اللفظة، وتنبّه لقدرة السياق على تحريف دلالة الألفاظ عن مقاصدها.
وأنتهزُ السانحة في هذا المقام، والعالم يحتفل بيوم اللغة العربية بعد أيّام قلائل، بأن أشير إلى الأشد خطرًا من هذا كله، حين نحشر في استعمالنا للغتنا العربية ألفاظًا لا تحمل شيئًا من ثقافتنا؛ ذلك حين يستجير الكاتب والمذيع والمُحاضر بألفاظ غير عربية لتوضيح العربي منها؛ مُتوهِّمًا أنها ثقافة وتطور ورقي وحضارة ، وأن ذلك تقدم في مدارج الكمال، بئس الحضارة تلك، بل هو الانكسار الحقيقي لأبناء اللغة، بتفريطهم في سلاحهم الأول الذي يناضلون به عن حضارتهم، فإنْ كان خطر استبدال ألفاظ عربية بعربية بهذا الاتساع من تغيير الدلالات وانحرافها، فما الخطر الذي تتوقعه من مقايضة لفظة عربية بأجنبيّة؟! ويكفي القول هنا إن الاستعمار الحقيقي للدول يبدأ من الانهزام اللغوي.