الخميس: 10 أكتوبر 2024م - العدد رقم 2287
Adsense
مقالات صحفية

الرحمة .. القوة الخفية لبناء علاقات عمل مزدهرة ومستدامة

  خلف بن سليمان البحري

في قلب كل علاقة إنسانية، سواء في حياتنا الشخصية أو المهنية، تتواجد الرحمة كواحدة من أهم الركائز التي تجعل هذه العلاقات تزدهر وتستمر؛ فهي القوة الناعمة التي لا تُرى بالعين، ولكن يُشعر بها في كل تصرف، وفي كل كلمة، وفي كل لحظة يتفاعل فيها الناس مع بعضهم بعضا. فكيف يمكن لهذه الرحمة أن تصنع الفارق في بيئة العمل؟ وكيف يمكن أن تكون أداة للاستدامة والنجاح في العلاقات المهنية؟

الرحمة ليست مجرد شعور بالعطف تجاه الآخرين؛ بل هي فعل يومي ينعكس في كيفية تعاملنا مع من حولنا. يقول الله تعالى في كتابه الكريم: “فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ” (آل عمران: 159). هذه الآية الكريمة تذكّرنا بأهمية أن يكون التعامل بين الناس، وخاصة في العمل، قائمًا على الرحمة واللين. في عالم يضج بالضغوط والتحديات اليومية، تكون الرحمة هي الشعاع الذي ينير الطريق لتجاوز هذه الصعوبات.

تخيل بيئة عمل تسودها الرحمة والتفاهم بين الرئيس والمرؤوس. عندما تكون القرارات قائمة على التفهم العميق لحاجات الأفراد ومشاعرهم؛ تتحول العلاقة بين الجميع إلى علاقة شراكة، حيث يعمل كل فرد بروح الفريق بدلاً من أن يكون مجرد منفذ للمهام. الرحمة هنا تصبح لغة مشتركة بين الجميع، سواء كانوا رؤساء أم مرؤوسين؛ فهي تسهل التواصل، وتبني الثقة، وتجعل العمل تجربة أكثر إنسانية.

الرحمة لا تعني التغاضي عن الأخطاء أو الضعف في القيادة؛ بل تعني إدراك أن كل إنسان يمر بتحديات وصعوبات مختلفة. وعندما تُمنح الفرصة للتعبير عن مشاعرنا ومخاوفنا دون خوف من النقد، تزداد الثقة بين الأفراد. في هذه اللحظات، تظهر القيادة الرحيمة، القادرة على تقديم التوجيه والدعم دون أن تشعر المرؤوسين بالضغط أو التوتر. ولكن ليس الرؤساء وحدهم من يجب أن يظهروا الرحمة؛ بل هي مسؤولية مشتركة. المرؤوس كذلك يجب أن يكون رحيماً في تعامله مع زملائه ورؤسائه، وأن يفهم ضغوط العمل التي قد يواجهها الجميع.

ولنأخذ مثالاً بسيطاً: في يوم عمل مزدحم، قد تجد زميلك غارقًا في المهام المتراكمة، فبدلًا من أن تنتقده أو تشعره بالإحباط، يمكنك أن تمد له يد العون بكلمة طيبة أو حتى بمساعدة صغيرة. إنّ هذا الفعل البسيط يمكن أن يغير يومه بالكامل، وقد يفتح باباً للتعاون المستقبلي الذي يصنع الفارق في بيئة العمل؛ فالرحمة هنا تصبح أداة قوية تجعل الناس يتكاتفون معًا، وتخلق أجواء من الراحة والإيجابية داخل الفريق.

وكما أن العلاقات داخل المكتب تتأثر بالرحمة، فإن العلاقات مع الأشخاص خارج نطاق العمل تتأثر بها أيضًا. الزبائن الذين يتعاملون معك في حياتك العملية ليسوا مجرد أرقام أو صفقات؛ بل هم بشر يبحثون عن تجربة إنسانية تُشعرهم بالتقدير. العميل الذي يشعر بأنه يتم التعامل معه برحمة وتفهم؛ سيشعر بالانتماء، وسيكون أكثر ولاءً في المستقبل. حتى في اللحظات التي قد تواجه فيها موقفًا صعبًا مع أحدهم، تظل الرحمة الوسيلة الأكثر تأثيرًا لتجاوز تلك اللحظة والتوجه نحو حلول بناءة. فالناس يحبون أن يشعروا بأنهم مسموعون ومفهومون، وأن حاجاتهم تهم من يتعاملون معهم.

ليس هذا فقط، بل يمكن أن تمتد الرحمة إلى التعامل مع الموردين، أو حتى في طريقة التعامل مع الجمهور بشكل عام. فالعلاقات التي تُبنى على الرحمة ليست علاقات قصيرة الأمد؛ بل تستمر وتزدهر لأنها تستند إلى أسس متينة من التفاهم والاحترام.

ولكي نفهم قوة الرحمة في العمل، علينا أن نتخيل بيئة عمل تخلو من الرحمة. بيئة مليئة بالصراعات، حيث يسود فيها التوتر والضغط. في مثل هذه البيئة، تتآكل الثقة تدريجياً، وينخفض الأداء، ويصبح كل شخص مجرد ترس في آلة ضخمة لا يشعر فيها بقيمته أو أهميته. وفي المقابل، عندما تسود الرحمة، يتحول العمل إلى مساحة للتعاون؛،حيث يشعر الجميع أنهم جزء من فريق واحد يسعى لتحقيق النجاح المشترك. يقول الله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا”- (النساء: 29). وهذه الرحمة الإلهية هي النموذج الذي يمكن أن نقتدي به في حياتنا العملية، لنبني بيئة عمل تفيض بالراحة والاحترام المتبادل.

في نهاية الأمر، الرحمة ليست ضعفًا، وليست خيارًا ثانويًا في العمل. إنها القوة الخفية التي تُمكننا من بناء علاقات متينة ومستدامة في عالم مليء بالتحديات. سواء كنت رئيسًا أو مرؤوسًا. تذكر أن الرحمة هي الجسر الذي يربط بين القلوب، ويضمن استمرار التعاون والنجاح.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights