“هدهدة الطفل في المهد”
خميس البلوشي
“دقّ ناقوس الخطر في كثير من تقلبات حياتنا، بسبب نكران تلك الهدهدات”
ففي هدهدة المهد، نسمع نبضات الحياة الأولى، وفي العودة إلى الجذور، نجد معناها الأعمق. فلنتذكر دائماً أن الحب والحنان هما بداية ونهاية كل رحلة.
في لحظات الليل الهادئة، حينما ينام العالم ويستقرّ السكون، نجد أنفسنا نشهد إحدى أقدم الطقوس الإنسانية، “هدهدة الطفل في المهد”. هذه الحركة البسيطة، التي تترافق وتتراقص مع أغنية هادئة أو لحن خافت، تحمل في طياتها عمقاً فلسفياً يتجاوز البساطة الظاهرة. إنها رمز لبدء حياة الإنسان، حيث يُشكّل الحنان والأمان الأساسيان لحياة متكاملة وناضجة. في تلك اللحظات السحرية التي تهدهد فيها الأم طفلها في المهد، يتجلى أمامنا مشهد بديع يختزل فلسفة الحياة بأكملها. صوت الأم الحنون، ونغمات الهدهدة الرتيبة، والمهد الذي يحتضن الجسد الصغير، كل هذه العناصر تلتقي لتشكل رمزية عميقة تبدأ بها رحلة الإنسان في هذا العالم.
ومنذ نشأة الحياة وبدايتها، فالطفل في المهد هو البذرة الأولى لحياة الإنسان، حيث يبدأ في التعرف على العالم والمعالم من حوله من خلال أصوات وأحاسيس أمه. الهدهدة هي الوسيلة الأولى للتواصل التي يتلقاها، لغة الحب والطمأنينة التي تهديه إلى عالم لم يعرفه بعد. في تلك اللحظات، يتعلم الطفل أن الحياة قد تكون قاسية في بعض الأحيان، لكنها تحمل في طياتها الأمان والحنان اللذان ينبعثان من لمسات أمه ونغماتها وهدهداتها الرتيبة، فنرى كيف أن الإنسان يبدأ حياته بالاعتماد على الآخرين، مستقبِلاً حبّهم ورعايتهم بلا حدود.
ومع مرور الوقت، تبدأ رحلة الإنسان منذ اللحظة الأولى التي يخرج فيها إلى العالم. يصرخ الطفل عند ولادته، وكأنه يعلن قدومه إلى عالم جديد، مليء بالمجهول والتحديات. هنا تأتي الهدهدة، كمحاولة لتهدئة هذا الصخب الداخليّ والخارجيّ. تمثل الهدهدة أولى تجارب الطفل مع الحبّ والرعاية، حيث يشعر بالأمان بين ذراعَي أمّه أو أبيه، يسمع صوتهما المطمئن، ويحسّ بدفء جسديهما. هذه التجربة الأولى تنقش في ذهن الطفل أن هناك دائماً ملاذاً آمناً يمكنه اللجوء إليه. ويكبر الطفل ويبدأ باستكشاف العالم بشكل مستقل. يتعلم الزحف، ثم المشي، وتزداد تجاربه مع كل خطوة جديدة يخطوها. كل هذا بينما ما تزال أصداء هدهدات أمه ترن في ذاكرته، تذكّره بالحنان الذي كان يحيطه في بداياته. في هذه المرحلة، فيتجلى لنا فلسفة الحياة كرحلة نحو الاستقلال والاعتماد على الذات، حيث يسعى الإنسان لفهم العالم من حوله بعيونه الخاصة، ومع ذلك، يبقى دائماً مشدوداً بخيوط خفية إلى جذوره الأولى، لا ندري ما هي، ألا هي هدهدة يدَي أمه.
ومع نمو ذلك الطفل، يبدأ في اكتشاف العالم من حوله. فتتسع دائرة وعيه ليشمل أفراد الأسرة، ثم الأصدقاء والمدرسة والمجتمع. في كل مرحلة من مراحل نموّه، يظلّ الطفل يبحث عن الأمان والاطمئنان الذي شعر به في المهد. يُعَلِّمُنا الطفل في بحثه هذا عن الحاجة الإنسانية الأساسية للشعور بالانتماء والحب. كما أن اكتشافاته وتجاربه تشكل فلسفة حياته، حيث يتعلم من خلال التجربة والخطأ، الفشل والنجاح، الحب والفراق.
وما أن تأتي مرحلة بلوغ الإنسان سنّ الرشد، ينتقل إلى مرحلة تحمل المسؤوليات وبناء مستقبله. وفي هذه المرحلة، تتضح معالم شخصيته وقيَمه التي تشكلت منذ طفولته. هدهدة الأم لم تكن مجرد أغنية ليلية، بل كانت درساً في الحياة، درساً في الحب، والصبر، والأمان. هذه القيَم هي التي يحملها الإنسان معه، مستخدماً إياها كأساس لاتخاذ قراراته وبناء علاقاته. فيكبر ذلك الكائن وتكبر معه آماله، لكن، كما هو الحال في أي رحلة إنسانية، هناك محطات مظلمة قد يمر بها الإنسان. بعضهم قد ينجرف في بحر الغرور والتكبر، متناسياً جذوره البسيطة والحنان الذي نشأ عليه. وفي هذه المرحلة، قد ينسى الإنسان دروس الطفولة وأهمية البساطة والتواضع. وهنا تتجلى فلسفة حقيقية أخرى لحياة الإنسان، فالتوازن بين تحقيق الذات والمحافظة على الإنسانية. فالهدهدة التي كانت ترن في أذنيه تذكّره.
وعندما يصل الإنسان إلى مرحلة الرشد، يظلّ في داخله ذلك الطفل الذي يحتاج إلى الهدهدة، إلى الحنان والأمان. لكن مظاهر الهدهدة تتغير، فقد تكون في صورة صديق مقرب، أو شريك حياة، أو حتى في لحظات من التأمل الذاتيّ والانعزال عن ضوضاء الحياة اليومية. تتجلى الهدهدة هنا كفلسفة أخرى من الحياة، حيث يسعى الإنسان لتحقيق التوازن بين واجباته وطموحاته، وبين متطلبات الحياة وضغوطها، فيطمئن نفسه تارة، ويلوم نفسه تارةً أخرى، متناسياً معطف الهدهدة في مرحلة صغره، وينكره. فدائماً الإنسان، مهما بلغ من القوة والنفوذ، يبقى في جوهره ذاك الطفل الذي يحتاج إلى الحب والأمان، والهدهدة.
وعند عودته إلى الجذور، وعندما يواجه الإنسان تحديات الحياة ويجد نفسه في أوقات الشدة، يعود بذاكرته إلى تلك اللحظات الأولى في المهد. يجد في تلك الهدهدات ملاذاً، يستعيد من خلالها توازنه ويتذكر أهمية الحب والحنان في حياته. ففلسفة الحياة تدور حول هذه العودة الدائمة إلى الجذور، إلى البدايات البسيطة التي تشكل أساس وجودنا. فهدهدة ذلك الكائن البشري، هدهدة الطفل في المهد ليست مجرد لحظة عابرة في حياة الإنسان، بل هي رمز عميق لفلسفة الحياة بأكملها. تبدأ الرحلة بالاعتماد على الآخرين، ثم نسعى للاستقلال، ونواجه تحديات الكبر والتكبر، وفي النهاية نعود إلى تلك الجذور البسيطة التي تغنينا عن كل تعقيدات الحياة. هي دورة مستمرة من النمو والعودة، تحمل في طيّاتها دروس الحب، والصبر، والتواضع، تلك الدروس التي تبدأ من هدهدة الأم لطفلها في المهد.