تأخرتَ في الرد أستاذي العزيز ..
ناصر بن خميس الربيعي
وأنا أسير في الفضاء الفسيح كعادتي وقت المساء، بدأتُ مع أول الخطوات أُقلّب هاتفي بين يدي عَلِّي أرى شيئاً جديداً يصحبني في طريقي الطويل.
وقفتُ على حالةٍ في الواتس وضعها طائرٌ يعشق قمم الجبال، وقد زخرفها بصورة زادت العبارة جمالاً ظاهرياً فوق جمالها المستتر، كالطُهرِ يُثبّتُ قوائمه على الصخور الزلِقة باحثاً عن الحياة.
لحظات مرت عليّ وأنا أفكر في هذه العبارة التي يجب علينا أن نتخذها حكمةً تُنير دروب العتمة والظلام، حكمة قالها جلال الدين الرومي (سلطان العارفين):
(عندما تتخطى أياماً صعبةً، أكمل حياتك كناجٍ وليس كضحيةٍ) بدأتُ كعادتي أتأمل في عمق هذه الحكمة، فسألتُ واضعها في الواتس: (وما الفارق بين النظرتين؟) إلا أنه تأخر في الرد، فقررتُ أن أخطّ وجهة نظري في الأمر.
أول ما جال بخاطري بيتٌ من الشعر قاله المسيب بن علس:
وقد أتناسى الهمّ عند احتضاره
بناجٍ عليه الصيعرية مكدمُ فقال طرفة بن العبد المثل المشهور: (استنوق الجمل)؛ لأنّ الصيعرية وشمٌ توشم به الناقة دون الجمل عند العرب، وسرعان ما ارتبطت الكلمة (نجا) في ذهني بقوله تعالى في محكم كتابه: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ۚ فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ ۖ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ﴿٢٥ القصص﴾ فالنجاة بعدها حياةٌ طيبةٌ فيها الفرح، وفيها الحزن؛ لأن النجاة من الأزمة تُكْسِب الإنسان خبرةً ومعرفةً يستغلها في حياته، فيتخذُ منها سُلّماً لبلوغ المجد، وهذا ما حدث مع الفتى في قصة نبي الله يوسف عليه السلام، كما قال الله تعالى في سورة يوسف: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} صدق الله العظيم.
أما أن يعيش الإنسان كضحيةٍ فهذه النظرة تجعل الإنسان أسير الأزمة التي مرّ بها وتنغص عليه عيشه؛ فتَسِم حياته بالتعاسة والبغضاء، فلا يرى فيها إلا الظلم والمؤامرة في كل من حوله، ويصير هذا الإنسان خائر الهمة لا عزيمة له ولا هدف يسعى إليه، فقد كبّل نفسه بقيدٍ يصعب فكه، وجعل منها ضحيةً لحادثة قديمة.
أما أنا فأقول يا سلطان العاشقين ويا طهر الجبال، أحب أن أعيش إنساناً يُحبُّ ويكره، يضحك ويبكي، يفرح ويتألم، فلا قيمة للنجاة إن لم تكن درساً يُلهمنا ويوجه سلوكنا؛ فنسعد بها في الدارين، ولا عزاء لمن جعل من نفسه ضحيةً يندب الماضي ويشكو الظلم الذي لم يدافعه عن نفسه ولا عن غيره، فحكمتي في الحياة: صنتُ نفسي عمّا يدنس نفسي
وترفعتُ عن جدا كل جبس فنأيتُ بها عن مواطن التهلكة والمهانة كيلا أكون ناجٍ ولا ضحيةً.