نعمة مع قطرات المطر
وداد بنت عبدالله الجابرية
إنه يومٌ مملوء بالحٌبِّ، مملوء بالسعادة، في طابور إحدى المدارس أقفُ أمام ابني، وأنظر إليه وهو يتمايل ويتراقص مع تلك الأنشودة “مصطفى مصطفى منبعٌ للصفاء”، كنتُ أبتسم وأنظر لكل من كان يقف بجاني وأشاركه تلك السعادة التي أشعر بها، قالت لي تلك المرأة؛”أن أبنكِ جميل جداً، ما شاء الله، حفظهُ الرحمن، فقد جذب ناظري، كيف هو يؤدي الرقصات، وكيف أنتِ تنظرين إليه، أحببتُ تربيتك، فقد حصل ابنكِ على المركز الأول في حفظ كتاب الله”.
بينما كنتُ أنظر إلى الطفل، فإذا بمديرة المدرسة تنادي باسمه واسمي، أما كلماتها التي جعلت من جميع الأمهات تنظر لنا نظرة حبّ وسعادة “الأم الفاضلة (….) وابنها، بوركتم في مسعاكم ووفقكم المولى، أتشرف اليوم بتكريم هذه الأم وابنها لحصولهم على المركز الأول في حفظ كتاب الله، وأتفضل أيضاً بتكريم هذه الأم على حُسن تربية طفلها، فقد كان نموذجاً رائعاً في تأسيس وبناء مدرسة ساعية للخير، وسأخبركم بقصة هذا الطفل والتي جذبت انتباهي، فلعلها تكون عبرة لنا جميعا.
ففي يوم من الأيام كنتُ أقوم بجولة في صفوف المدرسة، فإذا بهذا الطفل النجيب جذب انتباهي بقراءته الجميلة، وأنا أتقدم خطوة بخطوة، وأستمع لقراءته التي شدتني، ليقف ويتقدم خطوة إلى الأمام، ليمدّ يديه ويصافحني ويقبّل يدي، ومن ثم قبّل رأسي، وبينما عاد مكانه لاستكمال قراءته توقّف أمام تلك الآية: ({ وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ (41)}-[ سورة النجم: 39 إلى41]، ليخرج مسرعاً من الغرفة، لأجري خلفه لمعرفة سبب هروبه المفاجئ، فإذا به يقف أمام تلك الفتاة، بينما كنتُ أقف بعيداً عنهما، نظرتُ إليه وهو يُدخل يده لجيبه ليُخرج منها مبلغاً من المال ويعطيه لتلك الفتاة، وقفتُ مكاني في ذهول، كيف هذا طفل يمد يده ويعلم بحال تلك الفتاة، وأنا مديرة هذه المدرسة ولا أعلم عنها وعن حالها. تذكرتُ الكثير من القصص التي قرأتها في سيرة الحبيب.
مضت الأيام وبدأتُ أنظر إلى الأحوال المادية التي يمرّ بها الأطفال، فإذا بالكثير منهم يعاني من وضع مادي يحتاج للإعانة، فقررتُ منذ ذلك اليوم أن أقوم بمتابعة أبنائي ومدّ يد العون لهم، أشكركِ يا أم ….، فأنتِ نِعم الأم، وأحسنتِ في تربية طفلكِ، بارك الله فيكم وفي مسعاكم”.(انتهى كلام مديرة المدرسة).
حينها لم أشعر بشيء سوى أن دموعي تجري على خدي، ولكن السؤال: هل أبكي فرحاً أم أبكي لشيء آخر؟
نعم، لقد كان لهذا الطفل حكايته معي، وإليكم تفاصيلها كما يلي:
غيوم بيضاء، قطرات مطر، هواء عليل، يوم جميل، صباح مشرق، وقفتُ أمام قسم السجلات الطبية لأفتح لجدتي، فإذا بامراة:
-السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
– وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، تفضلي.
– بخاطري طلب صغير، ولكن أخاف أن …….
ثم قاطعتُ تلك المرأة:
– لا عليكِ، أطلبي ما تشائين.
– هل يمكنكِ أن تمسكِي بطفلي إلى حين عودتي.
– إن شاء الله، ولكن عند عودتكِ ستجديني بقسم ….
إن شاء الله.
نظرتُ إليه فكأنه قطعة من القمر، ملاكٌ بمعنى الكلمة. مرّ الوقت ولم أشعر به، هذا الملاكُ نائم، سلب عقلي، أما ابتسامته التي يقدمها بين لحظة ولحظة تجعلني أبتسم معه.
انتهت جدتي من علاجها وأخذتُ لها الأدوية ومرت 3 ساعات والمرأة لم تعد، بدأتُ أقلق، أين ذهبت؟ هل حدث لها مكروه؟
فكرتُ أن أبحث عنها في جميع الأقسام، ولكن أنا لا أعرف شكلها، فوجهها كان مغطىً بالحجاب، ولكن أتذكر عباءتها، بحثتُ هنا وهناك ومن قسم إلى قسم آخر ولم أجدها، ففكرتُ بوضع رقم هاتفي عند موظف قسم السجلات، ولكن ليس بحوزتي ورقة ولا قلم.
خرجتُ من المستشفى لأنظر إن كانت بالخارج وأحضر ورقةً وقلماً لأكتب رقم هاتفي، هنا شد أمرٌ انتباهي، ما الشيء الموجود بجانب سيارتي؟
أمسكتُ يد جدتي بيدي، واليد الثانية أحمل فيها الطفل وحقيبته الصغيرة الثقيلة، أدخلتُ جدتي والطفل في السيارة، وأمسكتُ بالورقة الصغيرة التي وضعت على سيارتي وبدأتُ أقرأها وأنا في ذهولٍ من الصدمة.
“ابني بأمانتك، فأنا لا أستطيع أنا أقوم بتربيته لأسباب خاصة، هذا الطفل ابن حلال، حافظي عليه، فأنا كنتُ أمكث بسيارتي وأنظر إلى المكان الذي كنتُ سأضع فيه طفلي، ولكن شددتي انتباهي وجذبتِني لكِ بتعاملكِ مع جدتك ومع ذلك الطفل الصغير، حينما وقع على الأرض مسحتِ على رأسه وقبّلتِ يده التي وقع عليها، هنا أحسستُ بأنّ ابني سيكون في يدٍ أمينة، ابني أمانة عندكِ”.
تساؤلات كثير تدور بداخلي، لماذا أمّنتني على طفلها؟
ما هو السبب الذي يمنعها من تربية طفلها؟
أخبرتُ جدتي واقترحت بأن نذهب إلى مركز الشرطة، بينما نقف أمام قسم الجنائية لأخذ البصمات، أخذ الموظف الطفل، ولكن هنا بدأ بالبكاء بشكل غير طبيعي، وعند الانتهاء من أخذ البصمات سألني:
“هل تعرفين ما سبب بكائه القوي؟
يمكن أن يكون جائع، أو أن شيئاً يؤلمه.
اكشفي على الطفل وانظري إلى ظهره”.
بدأت بالكشف عليه فإذا بكدمة على ظهرة والأصابع مطبوعة، فحسبي الله على من فعل هذا الفعل.
مع مرور شهر كامل
بدأ قلبي يتعلق بالطفل، أصبح مصدر سعادتي ومؤنس وحدتي، ولكن كان هناك شيء يقلقني وهي عودة أمه، لا أكذب عليك يا من تقرأ قصتي فأنا لا أتمنى عودة والدته، ولكن لا أتمنى بُعده عن حضن والدته.
وفي إحدى الأيام رنّ هاتفي ليخبرني الشرطي بأنهم وجدوا أمّ الطفل بحالة حرجة.
في المستشفى وبالتحديد غرفة خاصة يقف أمامها العسكري، دخلتُ وبيدي الطفل وهو يضحك ويدندن بصوته العذب، وقفتُ أمام السرير الأبيض، فإذا هي في حالة يُرثى لها، سألتُ الممرض عن حالتها، فكان الجواب أن حالتها لن تتعدى مرحلة الخطر، فقد تعرضتْ لضربٍ قويّ من قِبل زوجها.
أخبرني العسكري بأنهم وجدوها مرمية على الأرض أمام السُّلّم، فمن المحتمل أن يكون زوجها قد رماها من أعلى السُّلم، فزوجها سكّير.
هنا صُعقت، كيف تحمّلتْ هذا السكّير؟ كيف لها أن تبعد ابنها ولا تبتعد هي؟
الممرض:
– هل هذا طفلها؟
– نعم.
– ضعيه على حِجرها فمن المحتمل أن تشعر به.
تمر الأيام، فحياتي أصبحت من الدوام إلى المستشفى ومن المستشفى إلى الدوام، وفي اليوم الذي تحسنت فيه حالتها، فرحتُ كثيراً، ولكن بنفس الوقت حزنتُ كثيراً لفقداني الطفل.
فقد أصبح هذا طفل يميز بين حضن أمه الحقيقة وبيني، فكان يشعر بسعادة وهو على حضنها، كثير الضحك واللعب.
تركتُ الطفل وخرجتُ، ولكن صوتها وصوت الأجهزة جعلني أتراجع، وقفتُ أمامها فإذا بها تلفظ أنفاسها الأخيرة. ودار بيني وبينها حوار وقالت:
– عديني بأن تكوني أمّاً لابني، عديني بأن تربيه أحسن تربية، عديني بأن لا تتركيه لغيركِ، حتى والده، حينما يخرج من السجن لا تعطيه الطفل فإنه سيقتله، عديني.
– أعدك، ولكن إياكِ أن تذهبي، فتمسكِي قليلاً بالحياة من أجل ابنكِ، أنظري إلية كيف يبتسم ويلعب وهو في حضنكِ.
– آآه، لا أستطيع للتحمّل، آآه، خذيه بسرعة.
تعالت تلك الصرخات لأخرج وأنادي الأطباء، فحين قدومهم فاضت روحها إلى بارئها، رحلت عن طفلها، ومنذ ذلك اليوم وهو أصبح ابني.
فسعادته من سعادتي، حياتي ارتبطت به، فهو سعادتي في الحياة، الحمد لله الذي جعلني أكفل يتيماً.