2024
Adsense
الخواطر

حروفٌ هائمة

 

هيثم بن حمد بن علي الجهوري

أومأتْ إلى النادل بطلب فنجانٍ آخر من القهوة، دسّتْ أناملها بهدوء تامٍّ في حقيبة يدها، أخذت تقلّب ذلك الكتاب بدهشة، وربما ريبة، تحسّستْ على العنوان بأطراف نظراتها وكأنها تبحث عن شيءٍ ما؛ شرَعتْ في إعادة اتّزان نظارتها الطبية على مُحيّاها التي لم تتمكن من مواراة اتّساع عينيها وسحر بريقهما، همّت بمداعبة الصفحات بسَكينة حتى تعثّرت أناملها على قصاصة ورق محشورة وسط زحام الكلمات وهدير المفردات.
تناولت رشفةً من فنجانها قبل أن تراقص مقلتيها الكلمات على إيقاع نبض الروح، حين أطبق صمتٌ أضفى على المكان قدسية ناسك.

غرقتْ في حبر الكلمات، وغدت تطفو كعود تجاذبها أنفاس المفردات، تسندت مقعدها وأحكمت قبضتها على قصاصة الورق، أشاحت بنظراتها إلى البعيد، لم أدرك في أي مجرّة كان ملاذها ومستقرها، ومن حينها كل شيء توشّح بالسكون، وتدثّر بالسكينة، حتى فنجان القهوة خمدت أنفاسه اللاذعة المتصاعدة، فأصبح مستنقعاً من البُنّ.

دائماً في أعماق كلٍّ منّا ملاذٌ دافئ، نواري فيه كل الجنون والأفكار التي يستعصي على الآخرين استيعاب منطقها قبلما هيئتها، ونسدل عليها ستار الكتمان، حتى يكون لنا ذلك الخيط الرفيع الذي يحجبنا عن صرخات الشامتين بالهذيان.

لا أعلم كيف تسلل شفيف تلك الكلمات سراديب الحنايا، ووميض برق العيون بعثر سكون ذلك الملاذ الدافئ، حتى تمرّد وانصاع لجبروت سحرك، ربما كانت كل أشيائي هي من انقادت لك طوعاً، أمْ لأن لكلٍّ منّا ركنٌ فارغٌ في أعماقه، كنتِ من احتواه حتى امتلئ به، من حينها والنبض يترنح في دروب الرجاء وعظيم الامتنان.
لم أكن أرتجي لبريق النور أن يخفت أو يتلاشى، أو ربما في نشوة البهجة أحاول حمايتها مما يغتال أُنسها والسرور، وما أن تلاشى ذلك الضياء بنظرات فراق حارقة وتمتمات وداع لاذعة، من حينها بُحّ صوتي في مُناجاتك يا كلّ النداءات، يا هِبة القدر وهدية السماء؛ فصدى اسمك مزّق سكوني، وبعثر خارطة ملامحي، حتى حروفي اكتست السواد حداداً على أوجاعها فأرّقني وعْثاء دفاتري وكآبة كلماتي.
آهٍ لو لملمتي حروفي بأمواج نظراتك، وأقمتِ صُلب هذياني بِفُتات كلماتك.

هنا لا أرتجي أن يخاطر شعورك بأنك أمام شخصٍ لا يمتلك رصيداً من الكبرياء، أو أن يزاحم فكرك بأنكِ ترمين سهام إدباركِ في وجهٍ مطموس الملامح من معانِ الشعور، ربما أكون على النقيض تماماً، ولكن هي أصعب اللحظات التي ما بين ترقُّبٍ وطول أمل، لم أجد من يسند حرفي أكثر من كتاب “رسائل إلى ميلينا “؛ لذا خبأتُ كلّ إحساس بين أحشائه، فلم تكن قصاصة ورق بل هي كل ما تبقى من مداد الشعور، فصراع الكلمات أنهك أنامل الفؤاد؛ فحسبك أن بائع المناديل يمسح دموعه بيده.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights