وقع المطر
مياء الصوافية
حين يعود المطر بالفرح، والحنين للأرض نعود به وإليه؛ كأننا قطرات شفافة نتساقط معه على أنفسنا بحجم حكاياتنا المدفونة التي حكت لكل تعلّقٍ ألف رواية، وكتبتْ على أسطر الأعماق الذكرى المفطومة من الفطرة البيضاء، تلك الفطرة التي خرجت حين حياة من بذرتها الأولى تحت الضوء والظل، لكنها لم تُخرج هذه الحكايا. ظلّتْ تتابع قداسة طهرها في القلب، وتبرق بعينيها تبحث عن منفَذ في لحظة فرح وبياض؛ لتخرج منه بأجنحة الأغاريد، منطلقة من شرايين القلب بانشراح البوح، وحنين العودة.
وها هي ذي مع المطر -إنها الحكايا – تنظر لبعضها البعض، وتخرج كوميض برقٍ على موجة الحنين في بحر الامتداد، وخروجها لا يفهمه إلا المطر.
تخبر المطر متى خزّنت الذكريات التي تشبهه، وذلك حين كانت الأعين باردة كغُدران جبلية نقتات منها الصفاء، وتحتسي غذاء الروح على مصابيح الألفة، ودفء الأحضان، حين كان العالم كله أحضاناً يستقبلها في دروبه، ويُشرع لها أبوابه بمدد حاجات القلوب.
رائحتك يا مطر، كرائحة الآباء، طين الأصل، وماء الحياة، ومزمار وقع الحنان على خلجات نفوسنا، إنك طبطبات الألفة على وخزات نفوسنا.
إنك يا مطر، أنشودة الفرح خلف شمسك الخجولة عندما تتأهب للرحيل، تمنحنا ألواناً طيفية نعود بها وكأننا مع الحضن الأول.
تأتي بمعطفك الشتوي مشعلاً على جوانبنا أباريق الدفء، وأننا نحتسي فناجين السعادة برشفاتك الكريمة من صفحة غدرانك التي توشت الأرض بها حضنا دافئاً لدماء الأصل.
تتلاشى الأحزان، تأخذها قطراتك، تغسلها بنقائك، وتصعد برجاء اليسر بعد العسر، لأنك من السماء؛ فما تأتي يا مطر إلا بالكفوف البيضاء، وقد دنا رجاؤها.
يصبح الفكر معك صافياً كصفحة بلورية، وكصباحٍ جميل يحيا معك بالأشياء الجميلة الآتية منك ومعك، وتتساقط الدموع حين تأتي كراحةٍ حين وداع.
يصبح الفكر مرآة صافية، ترى ما وراء الشيء من جمال، وفي الصباح تغدو كأنك أزهار بيضاء تضاحك بعضها أنساً وهي خارجة من خدرها محمّلة بمباخر الشذى.
تتساقط قطرات الحنين في فصلك الشتوي، وما أنت إلا فصولٌ أربعة، تذكّرنا بفصول الحياة؛ فنغدو معك أطفالاً كربيعك، وشباباً كصيفك، وشيوخاً كخريفك، نتّكىء على عصا الحكمة، نختبىء داخل عباءة الوقار، وما أنت إلا شتاءً نلملم من قطراتك شيئاً من دفءٍ حين نبحث عن زهوره النائمة تحت أطباق البَرَد، لننشرها معك روائح من فرح في دروب الهازجين تحت وقع قطراتك.