سطوة ذَكر .. قصة قصيرة (الجزء الثاني والأخير)
بلقيس البوسعيدية
وهكذا يقف كلّ من أمّي وأبي وجهاً لوجه أمام الآخر، ثم يتبادلان الشتائم القاسية. الألم الذي تشعر به أمي يثير فيّ العاطفة، أتحرك ببط شديد وجسد مثقل وأقف أمام والدي، أجمع كل طاقتي وأقول له بصوت يختنق:
“أنا مستعدة، مستعدة تماماً، هيا بنا إلى المستشفى حالاً كي لا نتأخر عن الموعد المحدد.”
ينظر إليّ أبي نظرةً كلها استطلاع ثم يقول متسائلاً:
“هل أنتِ مستعدة حقا؟”
أجيب وعيناي المغرورقتان بالدموع ترتجفان:
“أجل.”
تقترب أمي مني بخطوات بطيئة وتضمني إلى صدرها بكل ما أوتيت من عطف ثم تجهش بالبكاء.
تسمّر كل شيء فيّ، صمت جسدي، وتوقف خفقان قلبي، حتى ردّة فعلي تجمّدت، لا أتحرك ولا أنبس بشيء.
سهم الساعة يشير إلى السابعة والنصف صباحاً، ونحن الآن في طريقنا إلى المستشفى، كلّ كياني يرتعد من أعلاه إلى أسفله. لا شكّ في أن الزمن سيمضي، وأنّ حزني هذا سيمضي أيضاً، ولكنّ هذا القرار الجائر الذي لا يليق بقلبٍ إنسانيّ، لن يمضي، بل سيظلّ ينبش جذوره في قلبي حتى يوم مماتي.
أشرقت شمس يوم الخميس بعد ليالٍ طويلة مليئة بالحزن والكدر، يمرّ اليوم بطيئاً رتيباً وموحشاً، أبي مشغول بتدريب أخي على تحريك ذراعه اليمنى الجديدة، وعلى اكتشاف سرّ أصابعها الهزيلة التي أسمعها تنادي عليّ كطفل يتيم ضائع كلما استرقت النظر إليها، أسئلة تتناسل وتتناطح في عقلي، مستمتعة بمدى عجزي وحيرتي أمامها، علامات استفهام تتراقص في منطقة ال (هل)، هل سيستطيع أخي أن يعيش بذراع ليست له؟
هل سيحتمل أنينها وحنينها الدائم لي؟
هل سيبكي يوماً ما لأنه يتحكم بأصابع يد ليست له؟ هل سيؤنبه ضميره أم أنه مثل والدي تماماً عديم الضمير.
أمّي مشغولة بإعداد القهوة استعداداً لاستقبال خطيبي (سعد) وعمه (راشد)، وها أنا هنا أتعذب تحت وطأة الشعور بالحزن واليأس القاتل، وحده التفكير في (سعد) يجعلني أحسّ بشيء من الراحة والطمأنينة. أصلي كل يوم وأدعو أن لا يشبه (سعد) أي شيء في والدي أو حتى أخي، أنا آمل ذلك حقاً.
كلنا بحاجة للأمل، الأمل بأن تحيا في داخلي القدرة على الإيمان بذاتي لكي أستمر بالتحليق في أفق الحياة، وأن أشعر بمعاني الأشياء الحقيقية لها.
إنها الحياة، لا تخلو من الاختبارات والألم والآمال والأحلام، إنها حياة حادة كاملة، فوحدها الرغبات هي التي تحركنا نحن الإنسانيون، تثبتنا وتبقينا صامدين مهما كانت الصعاب ومقدار الألم الذي يهز أرواحنا ويعبث بقلوبنا.
يشقّ سكون بيتنا الناعس صوت طَرقاتٍ منتظمة على الباب الخارجي، وصوت خفيض يقول شيئاً ما، أظن أنه صوت (سعد) تنتفض أمي وتهرع لفتح الباب بكل هدوء فإذا بها تفاجأ بسعد يصافحها بحفاوة:
“السلام عليكم.”
تبتسم بدهشة:
“وعليكم السلام، كيف حالك يا عزيزي سعد؟”
يجيب مرتبكاً:
“بخير، أنا بخير الحمد لله.”
تقول أمي بحاجبين معقودين:
“ما بك يا ابني؟ لمَ يبدو وجهك شاحباً هكذا؟ أين هو عمك؟ لِمَ لمْ يأتِ معك؟”
يبقى صامتاً، تقول أمي مشككة وبصوت يرتجف:
“ما بك يا ولدي (سعد)؟، لم لا ترد عليّ؟ عسى ما شر؟ هل حدث مكروه لعمك؟”
يحني رأسه على صدره ويقول وهو يطقطق أصابع يده توتراً وحزناً:
“لا، لا، أنا، أنا بخير وعمي أيضا بخير”
يبتسم ابتسامة باردة من زاوية فمه، ثم يردف قائلاً:
“هو فقط، هو مشغول قليلاً لذلك لم يأتِ معي.”
تنظر إليه أمي ملياً، ثم تقول بصوت هادئ:
“آه، فهمت، حسناً، تفضل إذن لا تقف هكذا على الباب.”
يصمت للحظات، ثم يقول بنبرة حاسمة:
” لا، لا داعي لذلك، أنا جئت فقط لكي أعتذر منكم.”
تركض علامات الاستفهام في رأس أمي كفرس جامحة:
“تعتذر؟ لم أفهم يا ولدي، تعتذر عن ماذا؟”
يتحسس جبينه بأصابعه بتوتر، يشرد قليلاً، ثم يقول:
لطفاً عمتي، هل لكِ أن تنادي على (كرامة)؛ أودّ أن أودّعها وداعاً يليق بها، وأن، وأن أعتذر لها أيضاً.”
بدأ قلبي يرتجف من وطأة الخوف، أذهب إلى الباب بخطوات متثاقلة، أتنصت؛ حتى أسمع ما يقوله سعد.
تقول أمي بخيبة:
“ستذهب إذن؟ يا إلهي، ولكن لماذا؟ لماذا يا ولدي سعد؟ هل تريد أن تكسر قلب ( كرامة).”
يجيبها بصوتٍ بحّ من الغصة:
“أنا آسف ولكن أنت تعلمين ما هي الظروف الصحية التي تمر بها (كرامة)، وفي الحقيقة أنا، أنا لا يمكنني أن أعيش مع امرأة مشوّهة.”
ترفع حاجبيها بدهشة، وتقول وهي تغالب دموعها:
“مشوهة؟ مشوهة يا (سعد)؟ حرام عليك، وأين هو حبك لها؟ هل ستخلف بوعدك لها يا ابني؟ كيف يمكن لك أن تتركها هكذا في هذا الوقت وفي هذه الظروف الصعبة؟”
تصمت للحظات، تبتلع غصة عالقة في حلقها، ثم تردف قائلة:
“اسمع يا ابني، (كرامة) بحاجة ماسة إليك، أنت شفاءها يا (سعد)، لا، لا أنا أرجوك، أرجوك لا تفعل بها هذا.”
يصمت قليلاً، ثم يطرق رأسه في أسى ويقول:
“أنا آسف حقاً، لا أستطيع يا عمتي، أنا آسف من أعماق قلبي.”
أتقدم بخطوات بطيئة مترددة، قلبي مشدود وحركاتي مرتبكة، أقف عند عتبة الباب وأسند رأسي على كتف أمي، أتأمّل (سعد) بدهشة عميقة وهو يذوب شيئاً فشيئاً في صدر الجزء المغترب من الطريق، مطأطئ الرأس داسّاً يديه في جيوب ثوبه، خجلاً من كل ما سبّبه لي من حزن وألم، أتأمل ضياعي وأبكي بحرقة على خسائري العظيمة، ثم فجأة يتوقف (سعد) في منتصف الطريق ويلتفت خلفه كمن نسي شيئاً، يرفع عينيه ويروح ينظر إليّ بعينيه الدامعتين نظرات ذات معنى، هو في حالة حزن وانكسار ملحوظ، يُخرج يده اليمنى المرتجفة من جيبه الفارغة كمن ينتزع شيئاُ ثقيلاً جداً، يلوّح لي تلويحة وداع مكسورة، مودّعاً إياي وداعاً أبديّاً، ثمة ارتعاشة تعتري جسدي، تنهار قواي، تكاد روحي تشعر بأني سأموت من شدة حزني. أرفع رأسي من على كتف أمي وأحاول جمع ما تبقى لي من شجاعة وكرامة؛ لكي أرد له تلويحة وداع تليق بوداعنا، ولكن لا أجد ذراعي لألوّح له.