أقنعة..
بلقيس البوسعيدية
إن قناعكَ الذي تُحكم وضعه على وجهك، ومهارتك العالية في إجادتك لارتداء التنكّر، يؤمّنان لكَ ما تحتاج إليه من احترام واستحسان وإعجاب من الآخَرين، بينما يعرّي لك الآخرون ذواتهم الحقيقة، تكتفي أنت بإطلاق الأحكام عليهم أو النفور والاشمئزاز منهم واستهجان حقيقتهم، وقد تشعر لحظتها بالفوقية عليهم كونهم وببساطة كشفوا لك أغطيتهم وسمحوا لك برؤية ذواتهم العزلاء، تسبر أغوارهم بينما أنت تلعب معهم دور الإنسان المثالي الغامض، تزداد عدد أقنعتك يوماً بعد يوم، وتتّسع رقعة غموضك بينهم، ومهما جاهدوا في تسليط الضوء عليك إلا أنهم يبقون جاهلين لما يقبع تحت زيّكَ الأنيق، الخالي من الشوائب بفضل مهارتك العالية في التنكر، لا أحد يسخر من عيوبك لأنك استطعتَ أن تبقيها في أدراج مُعتمة لا تطالها أعين الآخرين، لا أحد يصعق لأخطائك التي تجيد إخفاء آثارها بمهارة الرياح وهي تمشّط رمال الصحاري، لا أحد ينتقد مكامن ضعفك أو يهزأ بمخاوفك، تنجح في إقناع الجميع وتغرس في أذهانهم صورتك المثالية، ولكنك تدرك في قرارة نفسك بأنك لست مثاليا، فلديك عيوبك ونواقصك وهزائمك وخسائرك، لديك ندوبك وضعفك وجروحك ومآسيك وأخطاؤك وأسرارك المعتمة لقصص كثيرة خرجتَ منها بجيوبٍ فارغة وجروح نازفة، بعدما أثبتت فيها الأشياء شجاعتها عليك، وصمودها الطويل في وجه عاصفتك، تدرك بأنك لستَ بذاك المثاليّ الذي برعتَ في تمثيل دوره، وأنك تماماً كغيرك من الأناسيّ، لكنك تتجاهل وتستمر في تجاهل صوت واقعك الحقيقي الذي يخبرك على الدوام، ويثبت لك ويشهد عليك بأنك لست مثالياً، بل ممثلا بارعا فحسب، برع في غواية الجميع ما عدا نفسه.
هناك في مكان ما عميق بداخلك تتدفق الدماء والدموع، وتصدح صراعات الألم والندم، هناك في ركن بعيد جداً، ينام فيك ليلٌ طويل بائس وحزين، ليل لا تبزغ شمسه ولا تتلألأ نجومه، تدّعي القوة والمثالية والحقيقة ولا تكفّ عن ارتداء الأقنعة، تخاف من أن تهتزّ صورتك العظيمة في أعين الناس، تخاف من أن تبدو مسكيناً أو ضعيفاً كما خُيّل إليك حالهم وهم يتحلّون بالشجاعة ويخلعون أقنعتهم ويتعرّون تحت ضوء الحقيقة غير مبالين بأفواه العالمين، هم يدركون بأنهم ليسوا مثاليين ولا خالين من العيوب، وهم متصالحون مع أنفسهم وعاشقون لذواتهم، لكنك أنت لست على ما يرام ما دمت أنك لا تملك تلك الشجاعة التي تجعلك تخلع قناعك وتستريح مع نفسك، لستَ بخير وأنت تقف ثابتاً كأن لا شيء فيك يُهدم ولا مخاوف تقرع جدران قلبك، تتنكر وتعترض وتخبر نفسك بأنها ليست هشّة مثل نفوسهم التي بدتْ لك هشّة ومتهالكة، ما زلتَ متماسكاً ممسكاً بك، واثقا من صمودك المحتضر، ولكنها تلك الذكريات التي تأتيك بين الحين والآخر، وتشهد بصدق عليك بأنك لست المثالي الذي ادعيته، تذكرك بالمرات التي قلت فيها نعم رغم الصوت الصارخ الرافض في داخلك، المرات التي أخلفت فيها وعودك وكذبت وخذلت من أحبوك، من منحوك ثقتهم بعينين مغمضتين وقلب أعمى، تُذكرك بالمرات التي تركت فيها الباب مشرعاً للرياح التي كسرت عزيمتك ونثرتك وأنت غير مبالٍ بما وبمن تخسره، ما زلتَ تذكر تلك الحكاية التي تعثّرتَ فيها وأخطأتَ وأنكرت خطأك، وأشرتَ فيها بأصابعك وبدمٍ باردٍ نحو أشخاص لا ذنب لهم سوى أنهم كانوا فصلاً صادقاً في حكايتك.
وبالرغم من كل ذلك، فإنك تظلّ تقاوم وتهمس لنفسك:
“أنا لست مخادعاً، لست مقنعاً، أنا مثاليّ”.
تبقي على خوفك وجرحك، تبقي على غرورك وإيثارك لأناك الضريرة، تتمسك بأناك وتعظمها وتخلق منها جداراً عملاقاً يفصل ما بينك وبين حقيقتك، لا تكفّ عن خداع نفسك والآخرين، تستمر في الادّعاء والتظاهر والتصنّع وصنع واقعك المزيّف، وكلما مللتَ من التمثيل وتعبتْ روحك من صمودكَ الطويل، تخاطر وتتحسّس أقنعتك، وحينما تُحكم قبضتك عليها تهمس لك أناك الضريرة بأن صورتك المثالية ستذوب في مُقل الجميع، لكنها لا تخبرك الحقيقة، حقيقة أنك تزداد زيفاً وكذباً يوماً بعد يوم، وأنك تفارق صدقك ووضوحك، وتلك هي خسارة أفدح من كل خسائرك، أنك تبتعد عن ذاتك وتنسلخ عنك وتغيب من بين يديك، وحين تدرك تلك الحقيقة البشعة، تعتريك الدهشة والشجاعة، فتجدك تخلع أقنعتك واحداً تلو الآخر، إلى أن ينكشف بريق وجهك الواحد، تخلع مخاوفك وغرورك، تخلع غموضك وكبرياء شموخك، تخلع زيفك كله وتترك الضوء يمسك بلا خوف وبلا اكتراث لكل الأصوات التي تصرخ مصدومة من عريك، تعقد الصلح مع ذاتك، تذوب فيك وتمتزج بك، تشعر بقوتك وصلابتك وأنت تقف تحت الضوء في لحظة عناق حميم مع السلام، تشعر بأنك حرّ ولست مقيداً أو حبيساً في إطارٍ لأرض ليست أرضك، تشعر وكأنك طائر حرّ مزهوّ بعنفوانه، يحلّق في الآفاق البعيدة الممتدة، هناك حيث لا شيء سوى الضوء والحقيقة.